الرواية الأفريقية تتسيد العالم
بإطلالةٍ سريعةٍ على قائمة الفائزين بأرقى الجوائز الأدبية لعام 2021، نكتشف أن معظمهم مبدعون مرموقون من القارّة السمراء، نقلتهم أعمالهم الأدبية إلى مصاف العالمية، ما خوّلهم حصد أهم الجوائز الأدبية هذا العام، مثل نوبل وبوكر وغونكور، فقد منحت جائزة نوبل هذا العام للروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح، ليكون بذلك خامس كاتب أفريقي يتوّج بأرقى جائزة عالمية بلا منازع. وفي فرنسا، ولأول مرة في تاريخ أرفع جوائزها الأدبية، غونكور، منحت هذا العام لكاتب سنغالي شاب، هو محمد مبوغار سار، كما آلت جائزة بوكر البريطانية العريقة إلى الكاتب الجنوب أفريقي، دايمون غالغت، بينما حصل كاتب آخر من أصول سنغالية، هو ديفيد ديوب، على جائزة النسخة العالمية من الجائزة نفسها التي تعتبر من أشهر جوائز الروايات المكتوبة بالإنكليزية. أما جائزة نويشتات المرموقة فكانت هذا العام من نصيب السنغالي بوبكر بوريس ديوب، والشيء نفسه بالنسبة لأرقى جائزة كامويس، الخاصة بالأعمال الأدبية المكتوبة باللغة البرتغالية، فقد ذهبت إلى الموزمبيقية بولينا شيزيان.
طبعا، خلال العقود السابقة، أنتجت أفريقيا عديدين من الكُتّاب العالميين الأكثر مبيعاً، ساهم أدبهم بشكل كبير في تقديم صورةٍ راقيةٍ عن القارة السمراء، وما زالت كتاباتهم تساهم في تشكيل الصورة الأدبية الأفريقية، ومنهم من تركت أعمالهم أثرا كبيرا في الأدب العالمي لن يُمحى، لكن ما نشهده اليوم هي بوادر نهضة أدبية أفريقية عالمية، تذكّرنا بما كان عليه الحال قبل عقود، عندما كان أدب أميركا اللاتينية يتصدّر الأدب العالمي، وتحصد أعمال كتّابه الكبار أرقى الجوائز الأدبية العالمية. اليوم، نحن أمام ظاهرة جديدة، تعكس الصعود المتنامي للأعمال الأدبية الأفريقية، وخصوصا من النصف الجنوبي للقارّة السمراء التي ظل أدبها، حتى سنوات قليلة، مهمّشا ومنسيا، بسبب النظرة الدونية للقارّة التي ارتبط تاريخها الأدبي بإنتاج الأساطير والخرافات، فحضور أسماء الكتّاب الأفارقة، خصوصا من دول جنوب الصحراء الكبرى، في المحافل الأدبية العالمية، كان ضعيفا، على الرغم من أن قارّتهم لم تكن قط غائبةً عن الأعمال الأدبية العالمية التي كانت تتخذ منها موضوعا غنيا للإبداع والكتابية والخيال والدراسة والبحث.
أدب القارّة السمراء ظل، حتى سنوات قليلة، مهمّشاً ومنسياً
هذا النبوغ الأدبي الأفريقي هو تعبير صارخ عن عودة الوعي الأدبي الأفريقي الذي ينهل من خزّانٍ كبير من الإلهام والإبداع، ما زال لم يقل بعد كلمته الأخيرة، على الرغم من أنه استطاع خلال السنوات الماضية أن يحوّل القارة الأفريقية من "موضوع للأدب العالمي" إلى قارّة صانعة لهذا الأدب، ووضعها في موقعٍ يمكّنها من خلاله تحديد ما يجب أن يكون عليه الأدب والإبداع العالميان. واستطاعت ثلّةٌ من كتّاب أفريقيا السمراء ومبدعيها، وهي التي طالما اعتبرت موضوعًا هامشيًا للدراسات الأدبية، أن يكسروا النظرة الغربية المركزية للإبداع، ويتحدّوا وجهة النظر التقليدية أن الإبداع العالمي هو الذي يتم إنتاجه في المراكز التقليدية في لندن وباريس، في حين أن كل ما ينتج خارج هذه المراكز يعتبر ثانويا، ويتم ركنه في الهامش.
ما نشهده اليوم هو نوعٌ من التحوّل العميق في العلاقة بين المحيط والمركز، وإعادة تشكيل لقواعد العمل التي كان يحتكر المركز وضعها وفرضها على الجميع، فيما يبدو الآن أن المحيط هو من يحدّد معايير صناعة الأدب العالمي من منظوره الخاص، ومن خلال فرض قواعده الأدبية والإبداعية الخاصة به، والمختلفة حتما عن التي كانت تفرضها عواصم المركز على المحيط. لقد تطلّب هذا التحول العميق سنين طويلة من العمل، لكسر قاعدة المركزية الغربية في الأدب والإبداع، وفرض نظرةٍ جديدةٍ تسمح برؤية الأدب الأفريقي في المجال الأدبي والإبداعي عموما، متحرّرًا من العقيدة المركزية الغربية، ومنفتحا على العالم بآفاقه الأدبية الرحبة، وتنوع أشكال كتاباته المختلفة، وبرحابة تنوعه وغنى الثقافات التي ينهل منها.
مقابل هذا الانفتاح العالمي على الأدب الأفريقي، يغيب الحديث عن هذا النوع الناهض من الإبداع في عالمنا العربي الذي تحكمه نظرةٌ مركزيةٌ لغوية
وعلى المستوى الفكري، تعكس هذه النهضة الإبداعية الأفريقية نوعا من الوعي الجديد بضرورة التخلص التدريجي من الاستعمار الفكري الغربي داخل القارّة السمراء، وهو ما يتجسّد اليوم في هذا التبدل الذي تشهده طريقة الكتابة السردية والأدبية وأشكالها عموما، في كل الأشكال الإبداعية التي ينتجها كتّاب ومبدعون أفارقة، من أمثال الأسماء الكبيرة التي تم تتويجها هذا العام بأرقى الجوائز الأدبية العالمية. ولو أردنا أن نبحث عن علاقة هذا الوعي الأدبي بالواقع السياسي للبلدان التي أعطت كتّابا عالميين كبارا سنجد أن أغلبها يعيش نوعا من الاستقرار الديمقراطي، يضمن تداولا للسلطة واحتراما لكرامة الإنسان وحرّيته. وهذه الأجواء لا يمكنها إلا أن تكون عاملا مساهما في ازدهار الأدب الذي غالبا ما تكون إبداعاته تتويجا لنهضة الشعوب ورقيّها. لكن مقابل هذا الانفتاح العالمي على الأدب الأفريقي، وخصوصا ما يوصف منه بـ "الزنجي"، أي المنتمي إلى الدول الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى، يغيب الحديث عن هذا النوع الناهض من الإبداع في عالمنا العربي الذي تحكمه نظرةٌ مركزيةٌ لغوية. وأكثر من ذلك ما زال كثيرون من كتابه ومثقفيه منبهرين بالمركزية الغربية التي تخلّص منها زملاؤهم الأفارقة، على الأقل الأسماء الكبيرة التي فرضت نفسها، عن استحقاق وجدارة، في مصاف كبار أدباء العالم.