الزلزال والهم السوري
زلزال سورية وتركيا أو زلزال تركيا وسورية الذي وقع يوم الاثنين 6 فبراير/ شباط 2023، وضرب جنوبي تركيا وشمال غربي سورية، مخلفاً أضرارًا بشرية ومادية جد جسيمة في كِلا البلدين، ضرب دولتين يجمعهما التاريخ والجغرافية بكل تحدّياتهما وفرصهما ومشكلاتهما. لتضاف بذلك لحظة الزلزال إلى بنية (وتركيبة) العلاقات الثنائية التي تجمع البلدين والشعبين.
وتجمع بين سورية وتركيا علاقات مزدوجة، تشمل التوترات السياسية والخلافات الحدودية، بالإضافة إلى مشكلة المياه من جهة، والتقارب المجتمعي المتواصل من خلال التعايش المستر بين الشعبين في المناطق الحدودية والتبادل التجاري والاستعمالات المشتركة للغتين العربية والتركية في المدن والقرى الحدودية، يضاف إلى ذلك توسّع المصاهرات بين الشعبين على مر العقود، من جهة أخرى. ولعل ما زاد من تطور العلاقات بين الشعبين فتح تركيا أبوابها للاجئين السوريين بعد اندلاع الحرب الأهلية في سورية، حيث تستقبل تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين في العالم اليوم، (3,6 ملايين). ويتميز هذا الوجود بتمركز اللاجئين السوريين في المحافظات والمدن القريبة من الحدود السورية، التي ضريها الزلزال أخيرا، حيث يعيش في غازي عنتاب 463 ألف لاجئ سوري، و434 الفاً في هاتاي، و430 ألفاً في شانلي أورفة و96 ألفاً في كهرمان مرعش ... ليمثل السوريون أحد المكوّنات البشرية الأساسية في هذه المحافظات. لهذا، يتمايز زلزال سورية وتركيا أو زلزال تركيا وسورية عن بقية الكوارث، حيث إنه ضرب شعبين تجمعها الجغرافية والتاريخ والعلاقات الإنسانية.
ولم ينج اللاجئون السوريون، على غرار إخوانهم الأتراك المقيمين في المحافظات الجنوبية، من قوة الزلزال، ليضاف هؤلاء الشهداء إلى آلاف من السوريين لقوا حتفهم في الزلزال الذي ضرب الأراضي السورية في الوقت نفسه، لينتج عن هذا الزلزال الموت المزدوج للسوريين، سواء من الذين يقيمون في الداخل السوري أم في المحافظات التركية الحدودية في بلد اللجوء.
من معجزات الكوارث الطبيعية أن لحظة الكوارث الطبيعية تنجح في تجميد الخلافات السياسية بين الدول، بل إنها تعطل حتى العقوبات الدولية
مخلفات الزلزال وبالإضافة إلى ارتفاع عدد الشهداء وركام الأبنية المحطّمة ومن هم من دون مأوى تخفي ماساة غير مرئية ثلاثية الأبعاد بالنسبة للسوريين، حيث يستحضر السوريون مجدّدا، خلال لحظة الزلزال، مشاهد سنوات الحرب الأهلية في بلدهم، واللجوء إلى تركيا، وصولا إلى وفاة آلاف منهم، وتشرّد بعض منهم مجدّدا في بلد اللجوء، ليعيد الزلزال إنتاج الملامح نفسها التي أنتجت اللجوء السوري إلى تركيا، لتتراكم بعد أكثر من عقد محن السوريين، من دون بروز أي انفراج أو حل سياسي ينهي معاناتهم.
وفي ظل هذا المشهد المروّع، تعد حملات التضامن المحلية والدولية ومختلف المبادرات التضامنية الوجه الإيجابي والمشرف للإنسانية في مد يد المساعدة للمتضرّرين من الزلزال، رغم كل التحديات اللوجستية والعراقيل هنا وهناك. ليتأكّد مجدّدا أن التضامن الدولي العفوي خلال الكوارث الطبيعية يبقى سلوكاً إنسانياً ثابتاً، بغض النظر عن طبيعة العلاقات بين الدول، وبعيدا عن أية انتماءات وطنية أو عرقية أو دينية، بل وحتى اجتماعية.
لكن هذا لا يعني أن حجم المساعدات وطبيعتها تتساوى بين سورية وتركيا، بل بالعكس، تلقت تركيا عروض مساعدات من 70 دولة و14 منظمة دولية. أما سورية، فإنها تلقت مساعدات دولية أقل من تركيا. ولا يعود هذ التباين إلى تقصير دولي، بل بالدرجة الأولى إلى صعوبة إيصال المساعدات إلى مناطق سورية عديدة متضررة من الزلزال، بحكم الانقسام، بعضها إلى مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة السورية وبعضها الآخر إلى مناطق تابعة لقوات المعارضة والأخرى مناطق تابعة إلى جماعات مسلحة، ناهيك عن عدم جاهزية المطارات السورية من جرّاء الحصار. يضاف إلى ذلك غياب فرق إنقاذ مؤهلة في الأراضي السورية. أما في ما يخص تركيا، ففيها فرق إنقاذ مؤهلة، ولديها خبرات محلية ودولية، حيث انضمت تركيا منذ سنة 2000 إلى إجراءات الأمن والطوارئ التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي. يضاف إلى ذلك تعدّد سبل إيصال المعونات ومختلف المعدّات إلى المناطق المتضرّرة من الكوارث الطبيعية، وخصوصا الزلزال.
يعيد الزلزال إنتاج الملامح نفسها التي أنتجت اللجوء السوري إلى تركيا، لتتراكم بعد أكثر من عقد محن السوريين
ولعل من معجزات الكوارث الطبيعية أن لحظة الكوارث الطبيعية تنجح في تجميد الخلافات السياسية بين الدول، بل إنها تعطّل حتى العقوبات الدولية، كما هي الحال في سورية اليوم، حيث سمحت أميركا بوصول المساعدات إلى سورية مؤقتا كاستثناء لقانون قيصر. لتبرز بذلك لحظة الكوارث الطبيعية كلحظة فريدة ومؤقتة يجرى خلالها تجاوز الصراعات، لتحل محلّ الصراعات والعداوات لحظة يطغى عليها الجانب الإنساني، بل وحتى القيمي.
إعادة إعمار ما دمره الزلزال عملية تسارع إليها كل الدول المتضرّرة من الكوارث، وتعدّ من عمليات استرجاع سلطة الدولة وهيبتها على أرض الميدان، وذلك للحد من المنافسة التي تتعرّض لها مؤسسات الدولة من المبادرات المجتمعية أو من الجمعيات غير الحكومية أو من الخارج، لأن لحظة الزلزال أو بعده ترى فيهما الدولة كما لو جرت إطاحتها. يضاف إلى ذلك أن عملية الإعمار تهدف إلى إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي تصدّع من جرّاء الزلزال. وليست لعملية إعمار ما دمره زلزال 6 فبراير في تركيا وسورية المضامين والدلالات نفسها، وذلك لتباين الوضع السياسي في الدولتين، وخصوصا التباين في مستوى بسط نفوذ الدولة ومؤسّساتها. يضاف إلى ذلك تباين في الإمكانات التقنية واللوجستية، ناهيك عن محدودية الإمكانات المالية، ودور العقوبات الدولية والحصار على مختلف الجوانب الحيوية التي تساهم في تفعيل عملية الإعمار وتنشيطها على مدار السنوات الخمس المقبلة.
تتطلّب عملية إعادة الإعمار توفير بيئة سياسية وإدارية واقتصادية، بل وحتى مؤسّساتية نشطة وفعالة ومبتكرة، لأن إعمار ما دمّره الزلزال يتطلب ابتكار خطط عمرانية جديدة وفقا لتقنيات جديدة، فإذا كانت بعض هذه الظروف يتوفّر في تركيا اليوم، والبعض الآخر يجب العمل على إيجاده، فإن تداعيات الحرب الأهلية على مدار 12 عاما على السياسة والاقتصاد والمؤسسات، بل وحتى على القدرات البشرية في سورية، ترهن عملية الإعمار في السنوات المقبلة.