السقوط الكبير في أيلول طهران وموسكو الأسود
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
دخلت الأزمتان في إيران وروسيا مرحلة جديدة، بداية بتهديد الرئيس الروسي، بوتين، غير المبطن، باللجوء إلى الأسلحة النووية، وإعلان طهران إعدام متظاهر إيراني اعتقل بسبب الاحتجاجات. وكلا الحدثين يشيران إلى إشكالية كبرى يواجهها النظامان الحليفان، والمتشابهان في تركيبتهما القائمة على مزيج من الشعبوية والإرهاب والتحشيد الأيديولوجي. وكلاهما يعيش حالياً حالة من اليأس من جهة، ومن الذعر والاضطراب من جهة أخرى. فالنظام الإيراني أعلن، قبل واقعة الإعدام بيومين، عن حل "شرطة الإرشاد" (أو "شرطة الأخلاق") التي فجرت أفعالها الأزمة الحالية، في ما بدا أنه تنازل مهم للمتظاهرين. ولكن الخطاب الصادر من طهران ظلّ مضطرباً بشأن هذا الموضوع. حاول بوتين أيضاً، في خطابه، طمأنة الغرب والعالم بقوله "نحن لسنا مجانين حتى نستخدم الأسلحة النووية"، ولكنه، في الوقت نفسه، يرفض الالتزام بعدم البدء باستخدامها، ويعيد تأكيد أن أسلحة روسيا أكثر تطوّراً من كل القوى النووية المنافسة.
ورغم أن الأزمة في البلدين عميقة ومتطاولة، إلا أنها دخلت منعطفاً حرجاً في سبتمبر/ أيلول الماضي، فخلال أسبوع واحد منذ منتصف ذلك الشهر، شهدت كل من إيران وروسيا انفجاراً مفاجئًا وصاعقًا لرفض شعبي كاسح لجوهر سياسات نظامي البلدين. في الحالة الأولى، تفجّرت احتجاجات غير مسبوقة في حدّتها واتساعها عقب الإعلان في 16 سبتمبر/ أيلول 2022 عن وفاة الشابة كردية الأصل، مهسا أميني، بعيد أن اعتقلتها شرطة الإرشاد بتهمة عدم الالتزام الصحيح باللباس الإسلامي. بدأت الاحتجاجات بتجمهر نساء خلعن خمرهن علنًا وحرقها للتعبير عن الغضب على مقتل الشابة، وعلى سياسة "الحجاب" عمومًا.
خلال الفترة نفسها، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، التعبئة العسكرية الجزئية لتجنيد ثلاثمائة ألف جندي إضافي في حربه المستمرّة ضد أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي (يرفض أن يسميها حرباً)، وذلك بعد تعرّض قواته لنكسات غير متوقعة على الأرض. وكان المدهش والمفاجئ أن ردّة الفعل الأولى من الشارع الروسي كانت الهروب الجماعي لما بدا أنهم مئات الآلاف من المؤهلين للتجنيد الإجباري باتجاه الحدود، وعبر كل منفذ محتمل.
ما تظهره ردود الفعل الشعبية في البلدين ليس فقط المعارضة الواسعة للنظامين، فهذا من المعلوم بالضرورة، فقد ظل النظام الإيراني يواجه معارضة تزداد اتساعا خلال العقود الماضية. وقد بلغ هذا الوضع ذروته في الانتفاضة الخضراء عام 2009، احتجاجا علي ما وصفته المعارضة وقتها بالتزوير في انتخابات الرئاسة المعلنة في ذلك العام، وإعلان فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بولاية جديدة، مقابل غريمه رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي. ولكن على الرغم من حدّة الصراع في تلك الواقعة، إلا أن الخلاف هنا كان ما يزال داخليًا إلى حد كبير. ذلك أن موسوي كان أحد أقطاب نظام الجمهورية الإسلامية، ورئيس الوزراء خلال الحرب مع العراق، وآخر رئيس وزراء قبل إلغاء المنصب. ولعله يجدر بالذكر أن قرار آية الله الخميني تعديل مبدأ ولاية الفقيه إلى ولاية الفقيه المطلقة في عام 1988 كان دعمًا لموسوي ضد خصومه في البرلمان ومجلس صيانة الدستور ومجلس خبراء القيادة، وغيرها من مؤسّسات الجمهورية الاسلامية. (كان أولئك يدافعون عن الملكية الخاصة المطلقة، مقابل طلب حكومة موسوي الاستيلاء على أراضٍ تحتاجها لمشاريع كبرى).
قطيعة كاملة ًمع رؤية النظام الإيراني ومنطلقاته العقائدية، وكشف لخواء ما ظهر كأنه هيمنة أيديولوجية
يمكن أن نضيف هنا أن ردةً فعل النظام الإيراني ضد احتمال انتخاب موسوي تعود إلى هزيمة المحافظين المتمترسين في قلب الدولة بقيادة المرشد الأعلى من الإصلاحيين بقيادة محمد خاتمي في 1997، خصوصا بعد أن اقترب النظام من السقوط بعد فوز خاتمي الكاسح لدورة رئاسية ثانية في عام 2001، لولا تردّد خاتمي، إلا أن التحدّي جاء في الحالين من داخل النظام. فخاتمي وموسوي يشاركان بقية أركان النظام الإيمان بالمبادئ الخمينية، وإنما الخلاف هو بين اعتدال وتشدد.
من هنا تظهر خطورة التحدّي الجديد، الذي يبدو أنه يمثل قطيعة كاملة ًمع رؤية النظام ومنطلقاته العقائدية، وكشفاً لخواء ما ظهر كأنه هيمنة أيديولوجية، فنحن هنا أمام رفض لأبجديات توجهات النظام، المتعلقة بمجرّد المظهر. وتزداد أهمية هذه المسألة حين نعلم أن التمسّك بالزي "الإسلامي" أصبح ظاهرة عالمية، تصرّ النساء أحياناً على لبسه رغم المنع والحظر في بعض الدول. وعليه، حين يتحول اللباس الديني إلى محور الصراع مع النظام، وتنحاز إلى المعارضة فيه قطاعات واسعة لم تكن في الماضي نشطة في هذا المجال، خصوصا بين النساء، بل وفتيات المدارس، فإن هذه تصبح كارثة كبرى. هنا، تتحوّل الهيمنة الظاهرة من مصدر قوة واستقرار إلى خواء كبير وصادم. فبعد أربعة عقود ونيف من التجنيد والتحشيد والعمل الدعائي والتربوي المركّز، يتمخض الوضع عن رفض شامل وواسع وقطع لكل ما مثلته الثورة الإسلامية وجسدته ودعت له.
في هذه الحالة، لم تكن المحصلة من كل هذا الجهد والجهاد صفراً، بل ما هو دون الصفر بكثير، فعندما اندلعت الثورة الإسلامية في إيران في شتاء عام 1978، كان لها زخم غير مسبوق، لأن تحالفها مع اليسار الثوري جعلها تجمع بين شعارات الهوية الإسلامية ودعوات التحرّر العالمي. وقد لقيت وقتها تأييدًا واسعًا في الشرق والغرب، وألهمت حركات كثيرة، مفتتحة ما وصفت وقتها بـ"الصحوة الإسلامية". ومعروف بالطبع أن الثورة خيبت آمال كثيرين، بداية من أنصارها المحليين. تجلى ذلك في القطيعة مع المعتدلين من أنصارها، مثل مجموعة رئيس وزرائها الأول مهدي بازركان، ثم رئيس جمهوريتها الأول الحسن بني صدر، ثم خليفة الخميني المعين منه، آية الله العظمى حسين علي منتظري. أما عن اليسار وبقية الراديكاليين، فحدّث ولا حرج. ثم جاءت الحرب مع العراق لتُحدث تعقيدات جديدة. ومع ذلك استمرّت الثورة تلهم كثيرين، خصوصا بعد ربيع الإصلاح بقيادة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ثم ظهور المفكرين الإصلاحيين الجدد، مثل عبد الكريم سوروش ومحسن كاديفار وأمثالهما. إلا أن الردّة ضد الإصلاح دفعت الجمهورية الإسلامية إلى الانغلاق على نفسها، وتعزيز دور المليشيات والباسيج والحرس الثوري، وجماعات القمع الديني، مثل "دوريات الإرشاد"، المتهمة بمقتل مهسا أميني، وتفجير الأزمة الحالية.
رغم أن السنوات الأخيرة شهدت تمدّد نفوذ إيران في محيطها العربي، إلا أن هذا التمدّد عكس ضعف الجوار العربي أكثر مما عكس قوة إيران
وقد تزامن هذا مع تركيز السلطة في يد المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، وزيادة نفوذ المتشدّدين وتشكيلات الحرس الثوري، ما عكس بدوره عزلة النظام عن الشعب. ورغم أن السنوات الأخيرة شهدت تمدّد نفوذ إيران في محيطها العربي، إلا أن هذا التمدّد عكس ضعف الجوار العربي أكثر مما عكس قوة إيران، كما تشير الانتفاضات التي اندلعت في العراق ولبنان في السنوات الأخيرة من داخل المجتمعات التي تدّعي إيران كسبها والعمل لصالحها. ولكن خصوم إيران المحليين ظلوا يدعمونها بطريق غير مباشر: بالعمل ضد شعوبهم أولا، ثم ضد حلفائهم الطبيعيين من جهةٍ أخرى (كما في اليمن).
الوضع في روسيا مشابه، مع اختلافات مهمة، فالرئيس بوتين لم يأت على رأس ثورة شعبية، وليست له أيديولوجية واضحة، بل برز مثل هتلر من ضعف روسيا وانهيارها، وفي إطار حنين لمجد سوفييتي متوهم، وغير قابل للاستعادة. ولكنه طوّر أفكاره في اتجاه شعبوي شبه فاشي، قوامه الشوفينية القومية. وأسس شرعيته على حربه الوحشية ضد دويلة الشيشان الصغيرة والهامشية، مدشّناً بذلك منهجه الذي اتبع فيما بعد في جورجيا ثم في سورية، واليوم في أوكرانيا. أعاد تنكيله بالشيشان بعض الثقة لروسيا (بعد الهزيمة المنكرة في أفغانستان ثم انهيار الاتحاد السوفييتي). وأعانته الثروة النفطية على تثبيت أركان دولته. وقد انفتح في أول أمره على الغرب، وأصبحت روسيا ثامن السبع الكبار، وحليفاً مرغوباً في الغرب والشرق. وذلك على الرغم من ممارساته الإرهابية باغتيال المعارضين داخل روسيا وخارجها، وممارسة البلطجة على الجيران. وإلى حد كبير، كانت مغامرته السورية مرحباً بها، ما زاد من ثقته بنفسه.
إلا أن الأوضاع بدأت تتدهور إلى درجة أن المعارضة تجرأت على تحديه علناً في الشارع الروسي. ووصلت الأمور إلى مرحلة حرجة بعد أن غزا بوتين جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا في فبراير/ شباط 2014 وضمها إلى روسيا. ثم ثنى بتشجيع الانفصاليين الروس في شرق أوكرانيا، وقدّم لهم الدعم العسكري المباشر. ولكن هذه المغامرة فشلت، لأن الجيش الأوكراني ظل يكبد الانفصاليين خسائر كبيرة. وتعتبر مغامرة بوتين غزو أوكرانيا اعترافاً ضمنياً بأن حملته فشلت، وأن دعمه الانفصاليين صار وبالاً عليهم. وكان الغرض على ما يبدو تهديد أوكرانيا لوقف حربها على الانفصاليين أولاً، ثم اعترافها بضمّ القرم إلى روسيا. وأكثر ما يخيف بوتين ورجاله الآن أن تطالب أوكرانيا بإعادة جزيرة القرم، وهو ما يكفله لها القانون الدولي، لأنه لن يستطيع مواجهة أنصاره الروس الذين احتفلوا بعودة الجزيرة إلى روسيا.
يمكن التأريخ لسقوط الأنظمة القائمة في إيران وروسيا بشهر أيلول من هذا العام، الذي أصبح بحق أيلول بوتين وخامنئي الأسود
وكانت صدمة بوتين الأولى عندما تظاهر الآلاف ضد حربه على أوكرانيا، في حين لم يخرج مؤيدون له. ولعله كان يتوقع أن الشوفينية الروسية التي أذكى أوارها ستجعل الروس يصطفّون خلفه، كما اصطفّ الألمان وراء هتلر. ولكن العكس حدث. ثم كانت ثالثة الأثافي الهرب الجماعي لشباب روسيا ورجالها من التجنيد، حيث كان اصطفاف السيارات بالآلاف عند حدود كل دولة مجاورة، وازدحام المطارات بالهاربين من ذوي اليسار إعلاناً صارخاً للعالم بعزلة "الزعيم"، فليس هناك ما يُحرج رئيساً قومياً يشن حملة لاستعادة جزء من الوطن الأم مثل هذا المشهد العامر بالدلالات.
من هذا كله يظهر أن ما اعتقده بعضهم "ربيع الدكتاتوريات" في العالم، بعد انهيار ثورات الربيع العربي، وصعود الشعبوية في أوروبا وأميركا والهند، وتحول الصين إلى دكتاتورية باطشة، ما هو إلا سراب خلّب. ولعلها ليست مجرّد مصادفة أن الصين شهدت بدورها أول انتفاضة شعبية ضد حكمها الجديد، وسارعت، مثل إيران، إلى اتباع الصيغة نفسها بالتراجع السريع عن سياستها المتشدّدة تجاه "كوفيد"، بينما هدّدت المتظاهرين بالويل والثبور. عليه، يمكن التأريخ لسقوط الأنظمة القائمة في إيران وروسيا بشهر سبتمبر/ أيلول من هذاالعام، الذي أصبح بحق أيلول بوتين وخامنئي الأسود.
في حالة الصين، ربما نحتاج بعض الوقت لنرى، ولكنها أيضاً على منحدر خطير، بعد أن فكّك الزعيم الحالي، شي جين بينغ، صيغة الحكم الناجحة التي أوصلتها إلى وضعها الحالي.
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"