السكوت ليس من ذهب
أشرفت الصديقة الراحلة، رولا قوّاس، في عام 2013، على إنتاج فيلم توعوي لا يتجاوز بضع دقائق، عنوانه "هذه خصوصيتي"، قدّمته مجموعة من طالباتها في أثناء دراستهن مادة "نظرية نسوية"، تعرّضت حينها رولا، أستاذة الأدب الإنكليزي ودراسات المرأة، والعميدة السابقة لكلية اللغات الأجنبية في الجامعة الأردنية والناشطة النسوية الجريئة المدافعة عن حقوق المرأة، والتي يعود الفضل إليها في تأسيس مركز دراسات المرأة في الجامعة الأردنية، لحملة تشهير وتشكيك ذكورية عنيفة، قادها داعية شاب، وجد في محتوى الفيلم تهديداً للعفّة والطهارة وحسن الخلق التي يتميز بها الرجل الأردني! كذلك ذهب إلى أن الفيلم ينطوي على إساءة كبرى إلى سمعة الجامعة، ما أدّى إلى إقصاء رولا عن منصبها، بحجة إجراء تغييرات إدارية طارئة. وعلى الرغم من الدعم النفسي الكبير، وعشرات حملات المؤازرة التي حظيت بها الصديقة، إلا أن الغضب والقهر والإحباط نالت من عزيمتها، ولعلها وصلت إلى مرحلة متقدّمة من اليأس والتعب النفسي والإرهاق الجسدي، جرّاء صدمتها من مقدار التحجّر والعصبية والجهل الذي يعشّش في عقول من نعتبرهم نخباً ثقافية.
قبل وفاتها بقليل، كانت تعبّر للمقرّبين عن تلك المشاعر السلبية التي سبّبت إصابتها بجلطة متوقعة، في ظل ذلك المحيط القبيح المتسلط من الإرهاب الفكري. لم يمهلها العمر طويلاً، لتشاهد على الشاشات المحلية والعربية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي قصة الأستاذ الجامعي في جامعة العلوم والتكنولوجيا المتّهم بالتحرّش الجنسي بطالباته، مستغلاً سلطته في تقرير مصيرهن، وعجزهن عن فضحه بسبب المحاذير الاجتماعية المسلطة فوق رؤوسهن. استضافته قناة رؤيا الأردنية في لقاء تلفزيوني، ما أسهم في إدانته بسبب تلعثمه وضعف حجته. واستضافته قناة العربية، في لقاء مماثل، تجعلك تتذكّرعلى الفور مقولة "كاد المريب أن يقول خذوني".
أخيراً، بعد توالي الشكاوى وتراكم الشواهد والأدلة المسجّلة والمصوّرة، أخذت الجامعة قراراً بإيقافه عن العمل، وتحويل القضية إلى المحاكم، لتقول كلمتها الفصل، لكن ذلك لم يمنع تداول القصة على نطاق واسع في وسائل الإعلام، لكونها تحولت إلى قضية رأي عام. المفزع في الأمر، الذي يكشف الهشاشة الفكرية لمجتمعاتنا المأسوف على وعيها، كمّ التعليقات المتخلفة التي طاولت الطالبات الضحايا، موجّهة اللوم كله إليهن. كتب أحدهم، وهو طالب دراسات عليا: "اللي بتحط عطر وبتلبس الأزياء غير المحتشمة بتستاهل يصير فيها أكثر من هيك". وعلّق طالب آخر: "كنت بسمعهن في أروقة الجامعة بيضحكن مع زملائهن بصوت عالي خليع مثل ...". وطالب كثيرون بفصل الإناث عن الذكور في الجامعات، مع ضرورة تعيين مدرّسات جامعيات للطالبات، منعاً للفتنة، وحفاظاً على شرف الطالبات. كذلك هاجمت سيدة متطرّفة التعليم الجامعي للنساء، باعتباره مفسدة، واعتبرت خروجهن إلى سوق العمل أصل الشرور، لكونه يبيح الاختلاط بين الجنسين، ونصحت الشابات بأن يقرن في بيوتهن، بانتظار قدوم العريس، لأن ذلك أسلم لهن ولعائلاتهن.
اكتظّت مواقع التواصل بمثل تلك التعليقات التي قد تسبب لمن يتابعها إصابة بالجلطة، بل ظهرت آلاف التعليقات المشينة القبيحة الجاهلة التي توجّهت، في مجملها، إلى لوم المرأة الضحية واتهامها وإدانتها وتحميلها مسؤولية التحرّش بها ومنح صكّ براءة ضمني للمتحرّش، من خلال تمرير مقولات مغرقة في الضحالة والسخافة، مثل "لو ما أعطته عين كان ما تجرّأ". وهذه النماذج (وغيرها) لا تعترف، من باب التعنت، بظاهرة التحرّش، ويرونها حوادث فرديةً، لا تمثل قيم المجتمع المحافظة الطاهرة العفيفة الشريفة! وعلى الضحية، والحال هذه، أن تلتزم الصمت، حفاظاً على سمعتها، ودرءاً لانتشار الفتنة والفاحشة. في المقابل، تصدت مجموعات كبيرة واعية، منتصرة للضحايا، تطالبهن بعدم الصمت، وفضح كل من تسوّل له نفسه التطاول عليهن، وانتهاك خصوصياتهن، وعدم السكوت عن مثل هذه التجاوزات، والتمسّك بحقهن في الدراسة والعمل والوجود. وهذا بالضبط ما يجب أن نعمل عليه بكل جدّية، لأن السكوت ليس من ذهب في جميع الأحوال.