السلام مقابل الكرسي
في يوم زيارة أنور السادات إلى القدس قبل 42 عاما، وفي لحظة هبوط طائرته في تل أبيب، قطع التلفزيون السوري الرسمي مسلسل الغرب الأميركي الذي كان يُعرض، وخرج المذيع الرئيسي للأخبار، رجا فرزلي، ليعلق على الزيارة. قال من سمع التعليق إنه كان وصلة شتائم مطولة لشخص الرئيس المصري الذي انخرط آنذاك في خطةٍ اعتبرها كثيرون متهورة أو مجانية، بهبوطه في مطار بن غوريون ولقائه أعداء الأمس بشكل مباشر، والتحدّث علنا عن السلام، بينما أراض عربية كثيرة ما زالت تحت الاحتلال. وجاء قطع البث التلفزيوني السوري للتأكيد على فداحة الحدث الذي وُصِف بخيانة القضية العربية، وبدأ حافظ الأسد بعد ذلك خطوات سياسية ضد السادات، فتوجّه إلى مصالحة الفرع العراقي من حزب البعث، ليبدآ مرحلة قصيرة من العلاقات السعيدة، انتهت بمذبحة حزبية في قاعة الخلد العراقية، وإلى مزيد من التباعد العراقي السوري والانكفاء الداخلي. ومرت زيارة السادات إلى القدس، وبعدها مرت اتفاقات كامب ديفيد، ومر الكثير لاحقا من دون أن يقطع التلفزيون السوري برامجه مرة ثانية.
تبدو كلمة الممانعة مصطلحا مراوغا، ففي الأصل تم اشتقاقها من مقولةٍ راجت كثيرا في الشرق الأوسط على خلفية العداء العربي الإسرائيلي، لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سورية، وحين تبدّدت الآمال بالحرب بخروج مصر بعد زيارة السادات، بقي الشق الثاني الذي يفيد بأنه لن يتحقق السلام، فسورية تمانعه من دون أن تحصل على ما تريد، وهنا عانت السياسة من صداع مزعج مع عدم معرفة ما يريده حافظ الأسد. بعد زيارة السادات ثم حرب الخليج، عُقِد مؤتمر مدريد وتبعته اتفاقية إعلان المبادئ (أوسلو) بين منظمة التحرير وإسرائيل، واتفاقية وادي عربة بين إسرائيل والأردن على التوالي، وبقي حافظ الأسد قابضا على اللغز السوري، إلى أن عقدت المحادثات المباشرة السورية الإسرائيلية، وكان حينها إسحق رابين نجم "السلام" المتألق، ولكنه قضى مقتولا بيد متطرّف، وظلت المحادثات السورية الإسرائيلية فاترة، بدّد فيها حافظ الأسد عشر سنوات قبل أن يموت، من دون أن يعرف أحد سر لقائه الفاشل مع الرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون.
بعد رحيل الأب وتوريث ابنه السلطة، تبين أن هناك حنينا لتركة رابين، فطفا على السطح ما يعرف بوديعة رابين، ولكن رابين كان قد قتل وسطع نجم بنيامين نتنياهو الذي أبدى عدم معرفته برابين نفسه، فضلا عن وديعته. وراوح كل شيء في مكانه، بينما الإعلام يلوك اسم الجولان وشواطئ طبريا والمناطق المعزولة، من دون أن تتحرك الحدود ملمترا واحدا، ومن دون أن يتحرّك النظام السوري بوريثه الجديد في تحسين نفسه شعرة واحدة، بل ازدادت سطوة الأمن والغرق المذهبي ونفوذ إيران. وفي هذا المناخ، نضجت مفردة الممانعة التي استثمر فيها النظام وحلفاؤه طوال العقد الأول من القرن الأخير، وبرزت بوقاحة فجة خلال الحروب التي أعقبت الربيع العربي.
تقفز إلى السطح الآن نظريات وتكهنات عن استعداد بشار الأسد "للسلام"، بعد تسابق دول عربية لتوقيع معاهدات الغزل مع إسرائيل. الشكل الخارجي لهذا الافتراض مطمئن لبشار، ويمكن أن يعتبر ضمانة وصيانة إضافية لحكمه فترة مقبلة، ولكنها قراءة متسرّعة، فالموقف الحالي في صالح اسرائيل، ويرسّخ القوانين الجديدة التي تبنتها بخصوص الأراضي السورية المحتلة وضم الجولان، وستجعل زيادة مدة الحرب السورية من هذه القوانين حقيقة راسخة. وكما كان الأسد الأب يميع الوقت ويضيعه، ويناور ويتاجر لتبقى شعاراته صالحةً للعمل، فإن الجانب الإسرائيلي الذي درس السيكولوجيا العربية وفهمها جيدا منذ محادثات الهدنة في صيف 1949، فهم استراتيجية الأسد الأب، وجاراه كل تلك المدة، لصالح الحفاظ على جبهة سورية صامتة. أما فيما يخص بشار، فإسرائيل تدرك أنه بطة مشلولة، والتوقيع مع شبه جثة أمر لا يمكن لقيادة إسرائيلية أن تُقدم عليه.