السلم الأهلي في إسرائيل مهدّدا
لا أحد في إسرائيل يعرف كيف يمكن للأزمة الراهنة فيها أن تنتهي، ومن الذي يمكن أن ينتصر؛ الحكومة بما تمتلكه من أغلبية تمكّنها من تمرير ما تريده من تشريعاتٍ تلقى رفضا واسعا، أم المعارضة التي كانت الأسبق في تحريك الشارع وما زالت، لكن ما يعرفه الجميع أن الشارع أصبح الأداة التي يضرب بها كل فريق من السياسيين خصمَه بها، ويستخدمه ورقة ضغط في ظل حوار يرعاه الرئيس، وتنسحب منه قوى المعارضة واحدة بعد الأخرى (حزب العمل)، ودعوات من المنسحبين بوقف هذا الحوار الذي لا طائل منه (حزب إسرائيل بيتنا).
ثمة وجهان لحركة الشارع، المعارض أو الموالي، أحدُهما أنها تعبّر عن حراك ديمقراطي، وحق في التعبير عن الرأي، وتعزيز لمبدأ الدفاع عن الديمقراطية، فالشعب هو الذي يدافع عن الديمقراطية هنا، ولا حديث عن استدعاء للجيش، أو لأي مؤسّسات أخرى في هذا الصراع. ومع لجوء المعارضة إلى التصعيد عبر تعطيل عمل هذه المؤسّسات أو شلّ حركتها، إلا أنها تبقى وسائل ضغط مؤثّرة يستخدمها الشعب وليس العكس، وإن لم يمنع ذلك بعضهم، مثلما فعل الصحافي والمحامي يوفال يوعاز، المحلل القانوني لموقع زمن إسرائيل في مقاله "الحرب الأهلية هنا"، وقد طرح السؤال: ماذا لو وصلت الأمور إلى طريق مسدود؛ هل ستضطر بعض أجهزة الدولة الحساسة؛ كالجيش، والشاباك والشرطة وغيرها إلى أن تقرّر في هذه المرحلة ضرورة الدفاع عن الديمقراطية ضد الحكومة والكنيست اللذين يصرّان على سن قوانين سوف تقوّض الديمقراطية؟
أما الوجه الآخر لحركة الشارع فهو خطورة نزول الجماهير المؤيدة لما يسمّى الإصلاح التشريعي ضد الجماهير الرافضة التي كانت المبادِرة إلى النزول، والتي تبدو أكثر تنظيما ومداومة وإصرارا في ظل أن وجودها في الشارع هو وسيلتها الأهم للضغط على الحكومة لإيقاف خطّتها فيما تسميه هي الانقلاب التشريعي، بينما يبدو الشارع المؤيّد للإصلاح أقلّ تنظيما واستمرارية لاعتماده على الحكومة، بما تملكه من أغلبية تمكّنها من تمرير قوانين الإصلاح التي تريدها.
أفرزت الأحداث الجارية في إسرائيل تهديدات مجتمعية مرعبة، ربما تصل إلى درجة الانهيار الاجتماعي؛ فالخلاف القائم أخذ طبيعة المواجهة الحادّة
سبب الخطورة هنا أن من شأن هذه المواجهة أن تزيد من حالة الاحتقان الموجودة أساسا. لكن وبينما يمكن للسياسيين أحيانا عقد الاتفاقات والائتلافات، والوصول إلى حلولٍ وسط وتجاوز الخلاف، تترسّخ لدى الشارع العادي حالة احتقان لا يسهُل زوالها، في ظل ما يراه كل فريق أنه يدافع عن إسرائيل من الخطر الداخلي، المتمثل في شعب "إسرائيل الثانية". وهكذا تزداد الهوّة بين الفريقين اتساعا؛ وهي هوة ناتجة عن زيادة التوتر حول طبيعة الدولة: هل هي يهودية بالمفهوم الديني، أم ديمقراطية؟ وصل هذا التوتر إلى درجاتٍ مخيفةٍ ومقلقة، حسبما تقول بنينا شربيط باروخ، رئيسة برنامج القانون والأمن القومي في معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب الذي نشر ملخص رأي يؤكّد أن استمرار الأزمة، والإصرار على خطّة الإصلاح التشريعية سوف يزيد حالة الاستقطاب، ويعمّق الشروخ الاجتماعية الحاصلة، ما يضرّ بالترابط الاجتماعي الذي يعد أحد الأعمدة الأساسية للأمن القومي. وإضافة إلى ذلك، يصرف تركيز الحكومة عليه انتباهها وطاقتها عن التعامل مع التهديدات الخارجية. وقد دفع ذلك المعهد إلى أن يوجّه تحذيرا استراتيجيا يقول "إن دفع عملية الإصلاح التشريعي يولد أزمة داخلية غير مسبوقة، ويفاقم من التهديدات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي نواجهها، ونحن نحذر من أن ذلك يضر بتماسك المجتمع بصورة خطيرة، بل ويؤثر سلبا في روح الجيش الإسرائيلي، ويقلص من قدرة إسرائيل على مواجهة أعدائها".
وطبقا للمعهد، أفرزت الأحداث الجارية تهديدات مجتمعية مرعبة، ربما تصل إلى درجة الانهيار الاجتماعي؛ فالخلاف القائم أخذ طبيعة المواجهة الحادّة. وعلى الرغم من أنه لمّا يصل إلى المواجهات المادية بعد، إلا أنه لا ينبغي استبعاد الانجرار نحو العنف الشديد والواسع بين المعسكرين المتصارعين، وصولا إلى استخدام السلاح، فلو وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، فإن إسرائيل ستواجه كارثة محقّقة، لن يكون من السهل الخروج منها بأي حال.
%60 من اليهود يعتقدون باحتمالية أن يتطوّر الجدال حول الإصلاحات التشريعية إلى أعمال عنف
وقد كشف استطلاعٌ أجراه المعهد السياسي للشعب اليهودي أن 35% من الإسرائيليين يتخوّفون من اندلاع حرب أهلية في إسرائيل بسبب حالة الاحتقان القائمة منذ الإعلان عن التعديلات القانونية التي تستهدف السلطة القضائية؛ وقد سئل المستطلعة آراؤهم عما إن كان الحديث عن الحرب الأهلية مبالغة إعلامية، أم ضغطا من السياسيين، أم إن كان ذلك مصدر قلق حقيقي. وقد عبّر 38% منهم عن أن ما يحدُث هو مجرّد تضخيم إعلامي. وقال 16% إنه ضغوط من السياسيين، بينما رأى 35% أن ذلك يمثل خطرا حقيقيا من دون مبالغة. الملاحظ أن اتجاهات الرأي بين اليمين واليسار كانت مختلفة هنا أيضا حول الموضوع؛ إذ مال 59% من المنتمين لليمين إلى القول إن الحديث عن احتمالات الحرب الأهلية مبالغة إعلامية، فيما مال 52% من مؤيدي المعارضة إلى اعتبار ذلك مصدر خطر فعلي. وكشف الاستطلاع أيضا أن 60% من اليهود يعتقدون باحتمالية أن يتطوّر الجدال حول الإصلاحات التشريعية إلى أعمال عنف.
ما يدلّ على خطورة وجود أنصار الحكومة، وأنصار المعارضة في الشارع، ويؤكّد على حجم التوتر الشديد، والاحتقان أن متظاهري اليمين المؤيدين للحكومة وضعوا صورا لقضاة المحكمة العليا على الأرض، وداسوا عليها في تصرّفٍ يعكس إلى أي مدىً أصبح مؤيدو الحكومة يرون المؤسّسات القضائية عدوّا لهم. عبّر عن هذه الخطورة بني غانتس بقوله "نحن نقدّر تظاهرات مؤيدي الإصلاح التشريعي، لكننا لا نرضى عن تصرّفهم المشين بالدوس على صور القضاة، هكذا بدأ الأمر في الماضي .. لكنه انتهي بتشييع الجنازات". وتعكس هذه العبارة تخوّف غانتس من حدوث اغتيالات سياسية، على غرار ما حدث لرئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين. لا يعني كلام غانتس تسامي المعارضين عن هذه الأفعال؛ فقد وضعوا هم أيضا صورا لقادة الحكومة الإسرائيلية على الأرض وداسوا عليها. ويقول يوفال يوعاز إن إسرائيل أصبحت أقرب من أي وقت مضى إلى حافة الهاوية؛ فالسلطة تحوّل أجهزتها الأمنية إلى أجهزة لقمع المتظاهرين ضد الانقلاب التشريعي الذي تقوم به الحكومة، بينما تسكت على جرائم الإرهابيين اليهود المنتمين إلى التيار الكاهاني.
هناك وجهٌ آخر من أوجه الخطر أثاره معهد دراسات الأمن القومي، تتعلق بالجيش الإسرائيلي ومدى تأثير الأزمة عليه؛ فقد تعرّض النسيج الاجتماعي الذي يعتمد عليه الجيش لتغيرات خطيرة خلال الشهور الأخيرة، ومن المقدّر أن هذه التغيرات سوف تؤدّي إلى تهديداتٍ حقيقية على بنية القوة البشرية للجيش، وقدرته على العمل في مناخٍ من الإجماع الجماهيري الواسع، بل واستمرار بقائه جيشا للشعب، فمن شأن الأزمة باختصار أن تؤثر سلبا على العمل السليم للأجهزة الأمنية.
700 من عسكريي الاحتياط يحذرون من أن نظام الخدمة الاحتياطية في الجيش سوف ينهار إن لم يتوصل نتنياهو مع المعارضة إلى حلّ للأزمة
تزداد الأمور تعقيدا في إسرائيل؛ حيث ذكرت صحيفة هآرتس أن أكثر من 700 من عسكريي الاحتياط في الجيش الإسرائيلي أرسلوا خطابا إلى رئيس الحكومة يحذّرونه فيه من أن نظام الخدمة الاحتياطية في الجيش سوف ينهار إن لم يتوصل نتنياهو مع المعارضة إلى حلّ للأزمة التي أثارتها التعديلات التشريعية، وتضمن الخطاب تهديدا بتوقّفهم عن الخدمة، بسبب ما يرونه تغييرا جوهريا للنظام. وهذا أمرٌ غير مسبوق، ولم يحدُث أبدا في تاريخ إسرائيل، وقد اعتبر بعضهم ذلك بمثابة فسخ للعقد بين الجيش والمجتمع بشكل عام، والاحتياط بشكل خاص. ويرى محلّلو معهد الأمن القومي أن الأمر مرشّح للأسوأ في حال أصرّت الحكومة على سن قانون أساسي يعتبر أن طلاب المدارس الدينية يقدّمون خدمة مهمة للدولة، وذلك من أجل إعفائهم من الخدمة العسكرية. وهذا إن حدث سوف يؤدّي إلى انهيار أساس التجنيد الإجباري في إسرائيل، وستجد قطاعات كبيرة من المجنّدين صعوبة في قبول هذا القدر من التمييز، ما سيؤدّي إلى إضرار خطير بقدرة الجيش على مواجهة التحدّيات، والحفاظ على صورته الرادعة في مواجهة أعدائه، بل إنه يهدّد فعليا بانهياره بشكلٍ لن يكون قابلا للسيطرة.
ويثير قانونيون مشكلة أخرى قد تظهر إذا ما أرادت الحكومة توجيه أجهزتها الأمنية (الجيش، الشاباك، الشرطة ...) لتنفيذ عمليةٍ ما، أو القيام بإجراءاتٍ معينة أصدر الكنيست فيها قانونا، بعد أن كانت المحكمة العليا قد قضت بعدم تنفيذها. ولن يكون مثل هذا الوضع محتملا في الجيش، ولا في الأجهزة الأمنية الأخرى، والتي تتحرّك كلها وفق القانون، ما سيضع قادة الجيش والأجهزة الأخرى أمام معضلات صعبة في مواجهة مثل هذه الأزمة؛ هل سينفّذون أوامر السلطة التنفيذية، أم سيلتزمون بقرار المحكمة العليا!
تواجه إسرائيل إذاً أزمة داخلية كبيرة، وانقساما مجتمعيا غير مسبوق يهدّد السلم الأهلي، ويؤثر في عمل الأجهزة الأمنية ومستقبلها. وعلى الرغم من أن الانقسام لمّا يصل بعد إلى مرحلة "نحن شعب، وأنتم شعب"، لكن ما يظهر من كثرة استخدام السياسيين والمفكرين في إسرائيل تعبير "نحن إخوة" يشير إلى تخوّف من الوصول إلى هذه المرحلة.