13 نوفمبر 2024
السودان: اتفاق رديء لا بديل منه
منذ انقلاب عسكر السودان على عمر البشير، ثم الانقلابات الداخلية الصغيرة اللاحقة التي عرفتها صفوفهم النظامية والجنجويدية في المجلس العسكري الانتقالي، ظهر واضحاً أن شيئاً من الخصال الديمقراطية الفِطرية لعبد الرحمن سوار الذهب لا يمتلكه أي من هؤلاء الجنرالات، فلا نية عندهم بتكرار تسليم السلطة إلى مدنيين على غرار ما فعله ذلك الضابط الزاهد بالمناصب، في غضون عام ولا ألف عام، ولا همّ عندهم إلا الحكم على طريقة إدارة الأملاك الخاصة والقبيلة. ولمن لم يصدّق ذلك التقدير بعد يومين أو ثلاثة من إزاحة البشير، أتته سلوكيات العسكر المشتقة من كتالوغ كل الانقلابات والديكتاتوريات، وجاءته جرائم قتل المعتصمين أمام مقر القوات المسلحة والجلد والسحل ورمي الأجساد في النيل والحرق والاغتصاب والاعتقالات والتعذيب حتى القتل على يد مليشيات حميدتي، لتحاول إقناع المترددين بما لا يضمره العسكر، بل بما يقولونه ويمارسونه ويعلنونه جهاراً لإجهاض النوايا الطيبة إلى حد السذاجة. أمام تلك الحقيقة، وجدت المعارضة، ممثلةً بقوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين، نفسها أمام خيارات ثلاثة: الاستسلام السريع والانسحاب من المشهد والاكتفاء بخروج شخص عمر البشير من المشهد، وترك العسكر يحكمون مباشرة أو بالواسطة، ليراكموا المزيد من الفشل وليرتكبوا إجراماً إضافياً وليغرقوا البلد في فساد أكبر، فيُفتضح أمرهم ويضطروا إلى اللجوء من تلقاء أنفسهم للقوى المعارضة لعلّها تنقذهم من ورطة الفقر والجوع أولاً، وهما كانا المحركين الرئيسيين لانتفاضة ديسمبر 2018 على كل حال. أو كان بمقدور المعارضة اللجوء إلى السلاح وفصائل الحرب الأهلية المنتشرة بالفعل لا في النيل الأزرق وكردفان ودارفور فحسب، لمقارعة العسكر بحرب أهلية لا يذكر السودانيون إلا كوارثها، أو أخيراً، وهو ما اختارته، المعارضة إياها، من غير إجماع، محاولة تحسين شروط الحكم والحياة والحريات والمعيشة، عبر التفاوض الصعب مع أصحاب البزات المرقطة ومحاولة استمالة أوساط نافذة من صفوفهم وطمأنتهم، والضغط من خلال الشارع واستغلال رغبة أفريقية وغربية خجولة، لكنها حاضرة، بعدم تحكم العسكر وحدهم في ذلك البلد والخروج بصيغة إدارة سياسية مختلطة نادرة الحصول، بين المدنيين والعسكر.
ربما كان بالإمكان فعلاً أن يولد ما هو أفضل مما تم التوصل إليه في وثيقة الاتفاق السياسي الذي لا يلبي طموحات الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة المدنية على ما يقوله محركون كثر لانتفاضة ديسمبر، من أمثال الحزب الشيوعي السوداني. لكن الآن، وهنا، وبعد ثلاثة أشهر من المحاولات والمفاوضات، ومن القتل والدم والتهديد والسجن والغدر والتنصل من الاتفاقات ومن الوساطات من قبل الجنرالات، لم يستطع مفاوضو المعارضة تحقيق أكثر مما أنجزوا في هذا النص الرديء المائل لمصلحة العسكر من دون لبس لنواحي تكريس وصاية هؤلاء على مجلس السيادة بتكوينه وبهوية رئيسه لفترة أطول من رئاسة مدني ولجهة احتكار الضباط تسمية وزيري الدفاع والداخلية، وضمان حصانة قانونية لمرتكبي الجرائم من أفراد القوات المسلحة وضباطهم.
أمام هذا الذي حصل، يحتاج المرء للكثير من النوايا الحسنة ليصدق بأن العسكر، أي عسكر عموماً، فكيف الحال بجيوش بلداننا، سيوافقون فعلاً، وبالممارسة، على مشاركة الحكم مع طرف مدني بندّية حقيقية، اقتناعاً بأن الاتفاق هو تقاسم للسلطة، لا ضابط فيه يأمر ولا مدنيّ يأتمر وينفذ وإلا يُطاح به، أي أن الوضع لا علاقة له من بعيد أو من قريب، بقوانين الكليات الحربية "الديمقراطية" (نفذ ثم اعترض)، أو اللاديمقراطية (نفذ ولا تعترض أبداً). صحيح أن البريد يُقرأ من عنوانه، وصحيح أيضاً أن احتمالات نزول وحي ديمقراطي على هذا الطاقم من عسكر السودان، تشبه أمل إبليس في الجنة، لكن لا خيار أمام السودانيين، إلا بالمحاولة، فهم تعبوا، ومن يمنع عنهم حق التعب يكُن خبيثاً أو غبياً، أو كليهما معاً.
ربما كان بالإمكان فعلاً أن يولد ما هو أفضل مما تم التوصل إليه في وثيقة الاتفاق السياسي الذي لا يلبي طموحات الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة المدنية على ما يقوله محركون كثر لانتفاضة ديسمبر، من أمثال الحزب الشيوعي السوداني. لكن الآن، وهنا، وبعد ثلاثة أشهر من المحاولات والمفاوضات، ومن القتل والدم والتهديد والسجن والغدر والتنصل من الاتفاقات ومن الوساطات من قبل الجنرالات، لم يستطع مفاوضو المعارضة تحقيق أكثر مما أنجزوا في هذا النص الرديء المائل لمصلحة العسكر من دون لبس لنواحي تكريس وصاية هؤلاء على مجلس السيادة بتكوينه وبهوية رئيسه لفترة أطول من رئاسة مدني ولجهة احتكار الضباط تسمية وزيري الدفاع والداخلية، وضمان حصانة قانونية لمرتكبي الجرائم من أفراد القوات المسلحة وضباطهم.
أمام هذا الذي حصل، يحتاج المرء للكثير من النوايا الحسنة ليصدق بأن العسكر، أي عسكر عموماً، فكيف الحال بجيوش بلداننا، سيوافقون فعلاً، وبالممارسة، على مشاركة الحكم مع طرف مدني بندّية حقيقية، اقتناعاً بأن الاتفاق هو تقاسم للسلطة، لا ضابط فيه يأمر ولا مدنيّ يأتمر وينفذ وإلا يُطاح به، أي أن الوضع لا علاقة له من بعيد أو من قريب، بقوانين الكليات الحربية "الديمقراطية" (نفذ ثم اعترض)، أو اللاديمقراطية (نفذ ولا تعترض أبداً). صحيح أن البريد يُقرأ من عنوانه، وصحيح أيضاً أن احتمالات نزول وحي ديمقراطي على هذا الطاقم من عسكر السودان، تشبه أمل إبليس في الجنة، لكن لا خيار أمام السودانيين، إلا بالمحاولة، فهم تعبوا، ومن يمنع عنهم حق التعب يكُن خبيثاً أو غبياً، أو كليهما معاً.