السودان: تسوية مؤجّلة
لا يحمل المشهد الحالي في السودان أي مفاجأة. خلافات رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) كانت متوقعة، فحكمٌ برأسيْن لا يدوم. تفيد التجارب بأن الصراع مهما تأخّر محتوم. يبقى الترقّب للشكل الذي سيتخذه ومدته. يملك الطرفان أوراق قوة وضغط لاستخدامهما. مهما تذرّعا بأن "دمج القوات" هو السبب الحالي للخلاف وتأخير التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي، فإن هناك ما هو أبعد من ذلك، وإنْ كان هذا الملف يحمل من الأهمية ما كان يستدعي طرحه.
منذ عقود، لم تكن القوة العسكرية حكراً على الجيش. اعتمد نظام عمر البشير على المليشيات رديفة للجيش. تبطش وترتكب كل أنواع الجرائم باسمه في مناطق النزاعات والتمرّد. وكلما زادت جرائمها تمدّدت وزاد نفوذها حتى أصبح متجذّراً ويصعب تجاوزها. وازدادت الصعوبة نتيجة عوامل عدة. أولها أن هذه المليشيات، التي قوْننت أوضاعها أثبتت قدرتها على التكيّف مع المتغيرات العسكرية/ السياسية مهما كانت، ومهما تطلب الأمر من إعادة تموضع. وثانيها أنها فرضت نفسها رقماً صعباً بعدما توغّلت وتغوّلت في الاقتصاد بما يضمن لها القدرة على تمويل نفسها ويُغنيها عن الخضوع لإرادة أي طرف. ولذلك، لم تكن إطاحة عمر البشير ممكنة من دونها. شكّلت هذه اللحظة فرصة لا يمكن تفويتها لحميدتي للانتقال من اللعب من خلف الكواليس إلى أداء أدوار مباشرة ومراكمة مزيد من النفوذ والمكاسب، لا سيما بعد أن نال منصب نائب رئيس المجلس العسكري ثم نائب رئيس مجلس السيادة بعد الانقلاب الثاني على المدنيين.
تطوّع حميدتي لأداء كل المهمات القذرة لحماية الانقلاب، بما في ذلك فضّ الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم في يونيو/ حزيران 2019. يمكن العودة إلى تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش عن المجزرة المعلن في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، ووثقت فيه كيف "انتشرت أعداد كبيرة من قوات الأمن بقيادة قوات الدعم السريع بالقرب من منطقة الاعتصام، وفتحت النار على متظاهرين عُزَّل، فقتلت الكثير منهم فورا. اغتصبت القوات، وطعنت، وضربت المتظاهرين، وأذلت الكثيرين، وقصت شعرهم، وأجبرتهم على الزحف في مياه الصرف الصحي، وتبوّلت عليهم، وأهانتهم...". ورغم ذلك، خرج حميدتي للتنصّل من الجريمة والتعهد بـ"شنق" المسؤولين عنها.
هوْل المجزرة لم يضعفه، وإنْ هزّه كما البرهان. ولأن في تلك الفترة كان "العدو" مشتركا، أي القوى المدنية، بقي التنافس بينهما مضبوطاً. لكن المتغيرات المتسارعة في المشهد بدّلت الأولويات. وما كان حبيس الغرف المغلقة انتقل إلى العلن. منذ أشهر، أصبح يمكن ملاحظة الانتقادات المتبادلة بين حميدتي والبرهان. لم يحتج الطرفان إلى البحث عن ذرائع، فلكلٍّ منهما أسبابه، تحديداً تحجيم الآخر استعداداً لمتطلبات المرحلة المقبلة.
ومرّة جديدة، انتهج حميدتي السلوك نفسه، إذ خرج لينأى بنفسه عن الانقلاب على المدنيين في 25 أكتوبر/ تشرين الأول، ويقدّم نفسه على أنه المتحمّس الأول للاتفاق معهم، في الوقت الذي يشكل مصير مليشياته العائق الرئيسي لإتمام الاتفاق.
ما يجري حالياً من تأخير الاتفاق السياسي بسبب عدم التوافق على رؤية للإصلاح الأمني غير مأمون النتائج، ليس فقط بسبب سيناريوهات التصادم بين الطرفين، بل أيضاً بسبب ردّ فعل تحالف قوى الحرية والتغيير، الشريك المدني الرئيس المفترض في الاتفاق، فالموافقة على تأجيل أول ثم ثان للتوقيع لا تعني إمكانية الاستمرار في ذلك إلى ما لا نهاية، خصوصاً أن "الحرية والتغيير" أصلا كان يواجه معارضةً للمسار الذي اختارته من قبل قوى مدنية أخرى وجزء من الشارع. وما تهديد "الحرّية والتغيير" بامتلاك خيارات أخرى في حال تعثّر التسوية سوى مؤشر على ما قد يحدُث في الفترة المقبلة. لكن إغلاق مسار التفاوض يبقى الأخطر.