السودان: مَن أخفى الحفّارات يوم دفن أبيه؟
(1)
قد يبدو العنوان مضللاً للقارئ المتعجّل، فالصراع الدائر منـذ 15 إبريل/ نيسان الحالي في السودان ليس بين جنرالين فحسـب، بل هو بين جيشين، اختلفا حول اقتسام غنيمةٍ سرقاها بليلٍ وبنهار، وهي ملكٌ لشعبٍ مغلوبٍ على أمره. ظهرت معالم الغنيمة المسروقة، حين اختلف السّارقان، فتحقّق المثل التقليدي القديم: إذا اختلف اللصّان ظهر المسروق.
حين شهد العالم وتابع بعـيون الإعجاب والذّهول قطاراً اندفـع من مدينةٍ في شمال الخرطوم اسمها عطبرة، حمل آلاف السـودانيين داخل قمراته الداخلية وآلافاً أخرى من فوق سقفه، يلوحون جميعهم، وفوقهم السماء، بأعلام البلد ويهتفون في انتفاضة شعبية صادقة الإرادة، قضت بإسقاط "نظام الإنقاذ" فسقط بالفعل. ولكن سقوط الجنرال الطاغية تبـعه انشقاقُ عددٍ من ضباطه الكبار نأوا بأنفسهم عنه، منهم من تذاكَى وأعلن انحيازه لانتفاضـة الشــارع السّـوداني. من بينهم جنرالات مهنيون في القوات المسلحة السودانية، وبعض جنرالات آخرين من منازلهم، إذا جاز الوصف. ضاعت الغنيمة، وهي ثورة السودانيين التي أشعلوها في 19 ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، ولم يعد يتذكّرها، لا الجنرال المهني واسمه عبد الفتاح البرهان، ولا الجنرال القادم من لا مكان واسمه محمد حمدان دقلو (حميدتي).
(2)
يقف السودانيون في حيرة مِن أمر جنرالات سرقوا ثورتهم، وكبرتْ مطامعهم حتى بلغت حدّتها حدود الصّـراع الدامي والاقتتال بلا رحمة. أمّا المغلوبون على أمرهم، فقد ظنّوا أنه قتال لا يعنيهم في شيء، لكنهم سقطوا قتلى بالرصاص الطائش من عسكرٍ ينقصهم الصقل والتدريب ولا دراية لهم بحرب المدن، والعالم المذهول يرى ويسمع.
الجنرالات في السودان سقطوا سقوطاً مدوياً، ولن يكسب جولات القتال بين قواتهما، لا الجنرال المهني، ولا الجنــرال القادم من لا مكان
إنه قتال بين الجنرال المهني الذي يفترض أن يكون قائداً عاماً للجيش الرسمي ورئيس أمرٍ واقع للدولة السودانية، وعسكري آخر من منازلهم، قاد بعض مليشيات دارفور أوائل سنوات الألفية الأولى، فوصفه عمر البشير، بعد أن أعجبه أداؤه، محوّراً لقبه من "حميدتي إلى "حمـايتي"، ثمّ عمّده جنرالاً ليُساند مغامراته هناك. كلا الجنرالين لم يخـض أيَّ حروب في الدفاع عن بيضة البلاد، بل كسبا سمعتهما في مقاتلة أهل دارفــور، تلـك التي أفضت بالطاغية نفسه إلى مصيرٍ مؤسف، إذ بات طريداً تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية لتسبّبه في مقتلة دارفور.
(3)
لعلّ اتفاق الجنرالين أول أمرهما كان في تلاقيهما لاحتــواء ثورة شــباب السودانييـن المنادين بمدنيّـة الثورة، والتمسّـك بشعارات الفترة الانتقـاليـة، ثمّ فوجئـوا بمذبحة ما عُرف بجريمة فضِّ الإعتصام، وهي المؤامرة التي حاكها الجنـرالان لمعـاقبة الشباب الثائرين الذين قرّروا الاعتصام وتصفيتهم أمام القيادة العامة للجيش السوداني في عام 2019، لقطع الطريق أمام أطماع الجنرالات. وقاد اتفاقهما الملتبس بعد ذلك الجنرالات إلى تنفيذ انقلابـهم على الحكومة المدنية التي جرى التوافق بين كل عناصر تلك الثورة على أن تقود الفترة الانتقالية، ولكن الفشل حاق بانقلاب الجنرالات فتخاصما على الغنيمة، وما استطاعا حكـم السودان كيفـما أرادوا. الشباب الذين قادوا التظاهرات وهم على أسقف القطارات وملأوا زواريب العاصمة الخرطـوم وشوارعها بهتافاتٍ أخافتهم، فعـمـدوا إلى مواجهة شباب الثورة، ليس بمسيّلات الدموع، بل بالرصاص الحيّ، ولم تأخذهم رأفة، لا بمن بلغ الثمانين عاماً، أو من بلغ الثامنة، فأردوهم جميعاً شــهداء، ودماؤهم عالقة بأيدي الجنرالات.
من بركات شهر رمضان الفضيل أن الجنرالات في السودان سقطوا سقوطاً مدوّياً، ولن يكسب جولات القتال بين قواتهما، لا الجنرال المهني، ولا الجنرال القادم من لا مكان، فيما كُتب لشـــباب الثورة، فتيانها وفتياتها، أن يشهدوا كيف أخذتْ لهم السماء بالثأر ممّن سامهم العذاب قبل سنوات أربع في جريمة فضِّ الاعتصام، في شهر الصيام أيضاً.
(4)
يبقى السؤال: ولمصلحة من يثأر الجنرالاتُ، إذ هم يحطمون هياكل الدولة ويهدمـون بناها التحتية والفوقية، فلا تسلم الاتصالات ولا المطارات ولا المؤسّسات العلاجية والتعليمية والانتاجية؟ لمصلحة من يسـدّون جميع منافذ الجهود الحميـدة لوسطاء جــاؤوا لحقن الدماء من الأقربين والأبعدين، ولإيقاف مسلسل الدمار لأمــةٍ ســـودانيةٍ، كُتب لـها أن تشاهد بعينيها، كيف يعـبـث أبنـاؤها الجنـــرالات بمقدراتها، وهــي الأمّـة التي تولّتْ فــي ســنوات الخمسينيات الأخذ بيـد بلدان أفريقــية إلى عتبات الاستقلال والتحرّر من ربقة الاستعمار الكولونيالي البغيض، إذ كان السودان من أوائل الدول التي نالت استقلالها جنوب الصحراء، قبل ما يقارب السبعين عاماً، فلعبت دبلوماسية السودان دوراً مشهوداً في جهود الأمم المتحدة لإنهاء الاستعمار.
لمصلحة من يثأر الجنرالاتُ، إذ يحطّمون هياكل الدولة ويهدمـون بناها التحتية والفوقية؟
يا لسـخرية القدر أن يجيء إلى حكم السودان في هذه السنوات الماثلة من يُهدر ثرواته التي فوق الأرض وتلك التي في باطنها، ومَـن يرهن أراضيها الزراعية البكر بثمنٍ بخسٍ، لغُــرباءَ لا يعرفونها، ولا يعرفون عمق تاريخها. تُرى، هل يُدرك جنرالات السّــودان الذين تســلطوا على رقــاب أبناء أمتـهـم، كيفَ حفظ التاريخ ذِكراً باهـراً لأرض السّــودانيين السُّـمر، أو عـمّن حكـم بلادهـم من ملــوك وأباطــرة لهم منعـة، أوصلتْ ســــلطانهم إلى بلاد الـشـــام، قبل ميلاد الســــيد المسيح بقرون؟
(5)
ها هم الآن يتقاتلون. جنرالاتٌ يمشون بأحذيتهـم الثقيلة من فوق جثامين مَـن قـتـلـوا برصاص الغـدر في شوارع الخرطوم، ويهدمـون، بمجنزراتهم ودباباتهم ومُسـيَّـراتهم، كلَّ ما هو باقٍ من مقوّمات الوطن، ثمّ يحسـبون آخـر الأمر أنهم انتصــروا على عــدوٍ يتهــدّدهــم، وتغيــب عــن أبصارهم حقيقة أنهـم هزموا أنفسـهم الهزيمة الكبرى. لك أن تتخيل أن في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، تجرّأ رئيسٌ، مثل زيلينسكي، ودمّـر مطارات بلاده، هل كانت أوروبا أو كان العالم أجمع يهـبّ لنجدته أو يلتفت إليه؟
ما فعله جنــرالات السودان بمطار الخرطوم والمطار الدولي الثاني في مــروي (شمال) قطع الطريق على أهل المساعي الحميدة للوصول إلى عاصمة السودان لإيقاف نزف الدّم السّـوداني. حين بادرتْ منظمة أفريقـية إقليـميـة هي "الإيـغـاد" إلى إيفـاد رؤساء أفارقة كبـار بوساطتهم نحو الخرطوم، سمع الناس جنـرال السّـودان الكبير يُرحّـب بوسـاطتهم لإيقاف القتال في السودان، لكنه أضـاف: كيف لهم القــدوم إلى الخرطوم ومطـــارات البلاد قد تحطمتْ؟
للسودانيين مثلٌ فيه حكمة "من جئـنا لنساعده في سـتر جثمـان أبيه أخفى عنّا الحفّـارات". ... حفظ اللـه السودان ببركة الشهر الفضيل مِن ظُـلم بنـيهِ، قبل أن يحفظه من الطامعين في الذي حبـاهُ الـلـهُ به مِن نعــمٍ وخيــراتٍ وغـنــائم.