السوري والهزّات الارتدادية وسؤال الغد

18 اغسطس 2024
+ الخط -

لم تكن الحياة بهذا القلق والاغتراب والإحباط كما هي عليه اليوم في سورية، وفي عموم المنطقة، فمهما كانت تجورُ على الفرد، فإنه كان يعيش على شعور مضمر يضمن له الإحساس بحدٍّ من الأمان والملاذ، شعور بأنه يعيش في "وطن"، في دولة، في مجتمع يمكن أن يتكافل ويسند بعضُه بعضاً في أوقات الشدة، وما أكثرها.

يعيش السوري اليوم تحت التهديد، حتى بات يخشى النوم وإغماض عينيه، وكأن استقبال الموت صاحياً قد ينجيه، ولن ينجيه. زلزال كبير بدأ في مارس/ آذار 2011، كانت كل أسباب وقوعه متوافرة، فما كان يحصل مع الشعب منذ عقود وحده كفيل بتفتيت الصخر، بإحداث شقوقٍ وفوالج في القشرة التي ترتكز عليها البلاد وحياة الناس. وكان من الطبيعي أن تحدُث الانهيارات بأشكال وميادين كثيرة. زلزال ما زالت هزّاته الارتدادية فعّالة من دون توقّع موعد لنهايتها، ولا امتلاك سبل الحماية منها. ثم كان زلزال الأرض الجيولوجي، زلزال الطبيعة، وليس زلزال السياسة والصراعات الدامية على السلطة ولو كان الثمن التضحية بالشعب والأرض، زلزال السادس من فبراير/ شباط 2023، لم تشفَ النفوس من رعبه بعد، ما زالت هزّاته الارتدادية تتكرّر، فتزيد القلق قلقاً، وعطالة الحياة عطالة أخرى، والنفوس المتعبة تعباً إضافيّاً، فالرعب لم يغادر القلوب، ومشاهد الدمار لم تغادر العيون بعد، وشعور السوري باليُتم الذي استفاق مع الزلزال الكبير منذ انتفض الشعب لكرامته، لم يتجاوزه بعد.

تيتّم السوري منذ وعدته أنظمة ما يفوق المائة من الدول بأنها صديقته، وأنها ستدافع عنه وعن قضيته وتحميه، فصدّق الوعد، ونسي في حمأة المعارك أن يتفقّد روزنامة المواعيد والتواريخ، فإذا به يتشظّى ويتبدّد في كل الاتجاهات، وإذا به أمام خيارات حارقة، كلها عدو للحياة، إما حمل السلاح، وإما النزوح، وإما اللجوء، وإما الخضوع للأمر الواقع والقبول بسيطرة جهات خارجية، بأسلوب مباشر أو بالوكالة، بينما يخسر حاضره ومستقبله، ولا أمن ولا أمان، ولا صديق للشعوب أمام المصالح العليا لكل نظام أو دولة. وها هي السياسة تطرح أدواتها من جديد وتغيّر ألوان رقعة اللعب، ها هي أوروبا تعيد دراسة مواقفها من الأزمة السورية، وتقترح إعادة علاقاتها مع النظام بعد سنواتٍ من مواقف تدّعي نصرة الشعب السوري، وهي في الواقع لم تفعل إلّا ما زاد في قهره وفقره وضياعه وتشتّته، وتركيا تسعى إلى ترتيب أوراقها ومصالحها وتلعب لعبتها السياسية، والدول العربية منشغلة بمشكلةٍ أكبر، الحرب الإسرائيلية على غزّة وكلفتها، المدفوع منها والمؤجّل دفعه، ومشغولة أيضاً بانتظار الصراع الفعلي في المنطقة، بين إيران وأدواتها، وأميركا وأدواتها أيضاً، من دون أن تغمض عيناً عمّا يجري بعيداً، بين روسيا وأوكرانيا.

لا نظام يرضى بشروط لا تعجبه، ولا معارضة أو داعموها يرضون بما يتمسّك به النظام

تقضّ مضاجع السوريين من جديد هزّة أرضية في الدقائق الأخيرة من يوم الاثنين 12 أغسطس/ آب، مركزها جنوب شرقي مدينة حماة، في السلمية، ويشعُر بها السوريون في كل مكان، لم يهرعوا بكثافةٍ إلى الشوارع مثلما فعلوا بعد الزلزال الكبير، فالشارع لم يكن يوماً سكناً وملاذاً من غدر الزمان والمكان، ولا من انتقام السياسة عندما نزل للمطالبة بحقّه في الحرية والحياة الكريمة، ولا انتقام الأرض، ربما لم تعد حياتهم عزيزة بعدما فقدت عزّتها وهم أعزاء النفوس، هكذا كانوا، وإلى غير هذا أصبحوا، فلماذا الهرب من الخطر ما دام أن الخطر الأعظم هو في الموت المحقّق في كل حين، وفي كل موقع؟ تتصارع بلادهم فيها أربعة احتلالات على الأقل، وهم يقتلون وتُهدم بيوتهم وتذبح أحلامهم، عليهم أن يقبلوا بصراع المصالح والنّيات الخبيثة، عليهم أن يكونوا الحجارة التي ترصف فيها طرقات إيران من طهران إلى بيروت، وعليهم أن يكونوا أحجار الضاما على رقعة الصراع الأميركي الإيراني في شرق سورية وشمالها الشرقي، عليهم أن يكونوا مصدّات الريح في وجه قوات سوريا الديمقراطية وحرب تركيا معها، وأين؟ على الأراضي السورية، وعليهم أن يكونوا أدوات في حرب أيديولوجية وعقائدية، أن يضربوا بسيف من يسطو على حياتهم ويصادر قرارهم وإرادتهم أينما كانوا، من مناطق النظام وصولاً إلى مناطق النفوذ التركي، ويدفعوا الضريبة من "لحم أكتافهم" بعدما لم يعد في البلاد ما يطعم هذه الأكتاف كي تحمل قليلًا من اللحم، وعليهم أن يخاطروا في البحار والبراري والصحارى من دون اكتراث بمن ماتوا قبلهم وابتلعتهم البحار والمحيطات، فحلم الهجرة هو الأكبر من بين أحلامهم على الرغم من كل السوريين الذين حصدهم هذا الحلم، بل هو الباقي الوحيد في بالهم، في الغالبية العظمى منهم، ومن لم ينخّ بعد، وما زال لديه بقية من وفرة تعبه وشقائه فيما مضى، ولا أتكلّم على حرامية الحاضر وتجار الحروب ومن باعوا ويبيعون دم الشعب وكرامته وأرضه ومستقبله، بل أحكي عن سوريين شرفاء عصاميين استثمروا بجهدهم الإنساني، وقدّسوا العمل قيمة عليا تميّز الإنسان، هؤلاء حتى من كان يفكر منهم في السفر خارج البلاد ولو لقضاء إجازة أو علاج أو زيارة أقاربهم، وقعوا تحت رحمة تعليق الرحلات الجوية إلى مطار بيروت، المنفذ الوحيد للسوريين منذ 14 عاماً، أولئك دفعوا ما تبقّى من دماء قلوبهم وعصارة جهدهم لشركات الطيران، فألغيت رحلاتهم، منها من يَعد بالتعويض، وغالباً الجزئي، ومنها من لا يرد على الاستفسارات. مطار بيروت الذي لم يكن المنفذ الوحيد للسوريين المسافرين فحسب، ما عدا بعض الرحلات من مطار دمشق إلى بلدانٍ لا تكاد تعد على أصابع اليد، بل كان رئة لبنان الذي يعاني "ضيق النفَس" و"ضيق العيش" بعد تمكّن الجهات الخارجية من الطبقة السياسية فيه، ودق أسافين الفرقة بين مكونات الشعب اللبناني، فاختلفوا وتخالفوا فيما بينهم، وبقيت القوى الخارجية صاحبة اليد الطولى في لبنان حتى أوصلته إلى هذا الواقع الأليم، واقع تردّى بسرعة كبيرة حتى صار حقيقة، وليس غناءً، تصحّ فيه وفي الشعب السوري جملة فيروز "سوا ربينا".

تيتّم السوري منذ وعدته أنظمة ما يفوق المائة من الدول بأنها صديقته، وأنها ستدافع عنه وعن قضيته وتحميه، فصدّق الوعد

أمام هذا الواقع الأسود، الواقع الذي ينهش الأفئدة ويقضي على آخر ما تبقّى من قدرة على التحمّل، يطرح السوريون أسئلتهم، غالبيتهم سرّاً بينه وبين نفسه فيما لو بقي لديه بقية من قدرة على السؤال، وبعضهم يجهرون بها ليتلقّوا التخوين من شرائح أخرى، يطرحون أسئلة الغد، ملتفتين إلى ما يمكن تعريفه بالواقعية السياسية، لأنهم يريدون الخلاص، حتى لو كان خلاص اليائس الذي يتمسّك بما يعرض عليه حبلَ نجاة وحيداً. لكن حتى هذه الأسئلة، وهذه الواقعية السياسية لا تلاقي ما يدعمها، فلا نظام يرضى بشروط لا تعجبه، ولا معارضة أو داعموها يرضون بما يتمسّك به النظام. وإلى ذلك الحين، حين اللقاء الأول، وباعتبار ذلك خطوة في طريق الحل السوري المزعوم، بين رئيسي النظامين، السوري والتركي، تستنزف الهزات الارتدادية، الجيولوجية، والعسكرية الدائرة هنا وهناك، ما تبقّى من هدنة بين السوري وبين حياته، السوري لم يعد يهرع إلى الشارع بعدما هرب إليه السوريون على مدى سنوات الحرب، ولحظة الزلزال، فلم يجد من ينشله منه، ولا من يدعمه ويعوّضه عن خساراته كلها.

لقد فقد السوري المعنى، وبات يعيش مع شعور عدمي، وحده يحصد ما تبقى من إمكانية للنهوض والعيش من جديد. هكذا هي حالنا، ربما يخجل السوري من الحديث عن كارثته أمام هول ما يحصل في غزة، لكن هذا لا ينفي أن مشكلته كبيرة ومعقّدة ومشتبكة مع حرب غزة، ومع قضية فلسطين عامة، وهذا ليس انطلاقاً من شعارات تجرعها السوري على مدى أكثر من 50 عاماً، منذ الهزيمة الكبرى 1967، شعارات فارغة، إنما تأسيس على حقيقة كبيرة تقول إن إسرائيل وجدت منذ اليوم الأول لتكون كما تريد أميركا والغرب، ولن يكف لا أميركا ولا الغرب عن الدفاع عنها ودعمها وإمدادها بكل أسباب القوة والبقاء. أما نحن، فلنا الهزّات الارتدادية من دون بنية تحتية ولا تعويض ولا مستقبل. ولا وطن نشعر أنه يسندنا ونلوذ به.