السيسي ملك الغابة
من دون التفتيش في نيات كل من خالد علي وأحمد شفيق وسامي عنان، الذين مثلوا مشاريع مرشحين محتملين للرئاسة في مصر: ما هو حصاد نحو أربعة أسابيع من الاشتراك في مهزلة اسمها الانتخابات؟ ليس من حق أحد المحاسبة على النيات ومكنونات الصدور، لكن من الواجب تقييم النتائج، والتوقف مع المآلات والخلاصات، وعلى هذا لا بأس من إلقاء نظرة عامة على المشهد كله.
في المحصلة، نحن أمام يافطة، صنعت بعناية، تقول إنه ليس في مقدور أحد أن يزيح عبد الفتاح السيسي عن السلطة، التي وصل إليها بالقتل والتآمر، لا جنرال سابقاً يستطيع منازلته، أو حتى يستطيع الوصول إلى ساحة النزال من الأصل، ولا مرشحاً مدنياً يملك الفرصة للوقوف في وجهه.
رئيس الأركان وقائد السيسي السابق، سامي عنان، وأحمد شفيق الذي كان فريقاً وقائداً للقوات الجوية، في وقت كان فيه السيسي مجرد حامل تقارير للعرض على الرئاسة، كلاهما ليس مسموحاً له بلعب دور المنافس أمام السيسي، ولو حتى من باب إضفاء بعض الجدية على حالة عبثية.
يجلس شفيق في بيته، يتحرّك في المساحات التي يسمح بها النظام. وعنان، حسب المنشور، قيد الاعتقال لدى القوات المسلحة، متهماً بالتزوير ومخالفة اللوائح العسكرية، ليرفع الستار عن حقيقة دامغة: السيسي زعيم حزب القوات المسلحة، ولا يستطيع أحد مناوأته.
هنا لم تعد الأوهام من قبيل "صراع الأجهزة" والجيش متململ من السيسي، والمؤسسات في صدام. لم يعد ذلك كله صالحاً للمضغ، وقابلاً للتداول في محلات العطارة السياسية، المفتوحة في الخارج والداخل، فالقوات المسلحة بانت حزباً سياسياً، له هيئته العليا ممثلة في المجلس العسكري، والكل داخل الحزب خلف السيسي الذي وفر لحزبه كل أشكال الهيمنة السياسية والاحتكار الاقتصادي، فكيف يمكن التفكير في التضحية به؟.
ما جرى، مرة أخرى، أن الثلاثي (خالد علي وسامي عنان وأحمد شفيق) ساهموا في مهزلةٍ أدت إلى تعلية جدار الخوف، والهبوط بسقف الأمل، لدى الجماهير، فزادوا الناس إحباطاً على إحباط، وفاقموا إحساسهم بالعجز واللاجدوى من محاولة مناوأة السيسي ونظامه، والسعي الجاد والحقيقي إلى تغييره.
قتل خالد علي إمكانية التغيير بحراك الثوري، عندما قرّر التزلج فوق ألواح "25 يناير" في مستنقع انتخابات "30 يونيو" المكدس بالجثث والأشلاء، والمعتق بروائح العفن السياسي، مدغدغاً مشاعر الجماهير بأنها الفرصة لفتح المجال العام، واستعادة الحالة الثورية.. إلخ، لينتهي به المطاف واقفاً فوق خشبة سيرك، مطلوباً منه في لحظة مجنونة التنازل للجنرال سامي عنان، والعمل في خدمة حملته، ثم تكتمل الدراما بالانقضاض العسكري على المرشح العسكري نفسه، واعتقاله وإخراجه من المشهد، ليجد خالد علي نفسه ممثلاً وحيداً في مونولوغ ركيك ومبتذل، لا هو يملك القدرة على اتخاذ قرار الانسحاب، ولا لديه الاستطاعة لاستكمال الأداء، منتظراً ما تقرره جهة الإنتاج بشأنه.
في حالة أحمد شفيق، كانت خطوة إعلانه، من مقرّه في أبو ظبي، مصارعة السيسي انتخابياً، كافية لنسف وحرق أي احتمالية أو جدية لديه في خوض السباق. وهذا ما قلته مبكراً على شاشة "الجزيرة مباشر" ولم يعجب أحداً، لينكشف الستار عن شفيق معاناً أنه ليس المؤهل لخوض انتخابات، بعد إغلاق ملفاته وطلاء منزله.
لا يختلف الأمر كثيراً مع سامي عنان، فكونه يعلن، في إطلالته المصورة الأولى، أن ثمة إجراءات وأوراق وموافقات رسمية من القوات المسلحة لم يستوفها بعد. وفي حال استيفائها، سيكون مرشحاً، فهذا أيضاً ينسف فكرة الجدية، ذلك أنه باعتباره رئيس أركان سابقاً، لابد أنه كان يعلم، قبلاً، أن في مثل هذه الإجراءات مقتل فرصته في بلوغ حلبة المنافسة. ومن ثم ما كان عليه لفت الانتباه إليها، قبل الترشّح، وما كان ينبغي إعلان الترشح، قبل تجاوز هذه العقبات، إن كان بالفعل جاداً في خوض الصراع.
بالإجمال، نحن أمام لقطة مثيرة، يظهر فيها السيسي في هيئة "سوبرمان" قاهر للجميع، أو ملك الغابة، فيما يتبعثر المعسكر المحسوب على الثورة بين من يطالبك بدعم شفيق، ثم عنان، بمبرر "جواز أكل الميتة" عند الهلاك، ومن يريد منك مساعد خالد علي في لعبة التوكيلات، على الرغم من انعدام فرصته، فقط لأنه "صاحبنا ومن تيارنا" فيما يغمض الجميع عينيه ويصم أذنيه عن حقيقة بازغة، تقول إنه لا توجد انتخابات أصلاً.
ومجدّدا، وبعيداً عن النيات، فإن الحصاد هو تكريس إحساس الجماهير المتعطشة للتغيير بالعجز وقلة الحيلة، خصوصاً وهي ترى ما تسمي نفسها قوى الحراك الثوري تتصارع على وظيفة في حملة شفيق، ثم تتسابق لكتابة رسائل الغرام وقصائد المديح في ترشّح عنان، في انسلاخ كامل من قيم ثورة، قامت ضد نظام شفيق وعنان، بحجة الواقعية.
وكما قلت مع هوجة التسريبات والرسائل المربوطة في أرجل حمام زاجل محسوبٍ على الثورة فإن "الاستسلام لتعاطي هذا النوع من "الصنف" السياسي يبقى وسيلةً، تتكرّر في مثل هذا التوقيت كل عام، لإحراق ما تبقى لديك من أمل ويقين في القدرة على الحراك، وسحق أي محاولةٍ للتفكير في التغيير، من خلال إظهار "تنظيم السيسي" قوةً باطشة لا قِبَلَ لأحد بها، تماماً مثلما نجحوا في زراعة أسطورة "إسرائيل التي لا تقهر" في المنطقة.