السّـودان ودبلومَاسِـية أهلِ الكَهف
(1)
إذا كانت الكتبُ السماوية تأمر البشر بالاستقرار فيكون الإطعام، وبالسلام فيكون الأمان، فإنَّ ذلـك ما ارتضته الأمـم وتوافقـت عليه في مواثيـق رتبتْ أحوالها وأوضــاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. سنرى أنّ تلك المواثيق والاتفاقيات التي ابتدعها البشر لا تبـتعـد عن تلك الأوامر الرّبانيـة إلا بقـدرٍ طـفـيـف، وهي بلغة الزّمن الماثل صيغٌ للـتعاون الدولي والتعايش السلمي بين البشر، وذلك ما يندرج بلغة العصر تحت مظلة ما يعرف بالدبلوماسية المتعدّدة الأطراف.
تلك هي الدبلوماسية التي قنّنتها الأطرافُ التي تُشكّل ما يُعـرف بالمجتمع الـدّولي، وهي التي تستهدف توفير الاستقرار بمعناهُ السياسي والاقتصادي، بما يشمل الأمن وحمـاية البشـر والمنافع. لذلك، تجد عبارة "حفظ السلم والأمن الدوليين" في لُبّ كلّ المواثيق والمعاهـدات الدولية التي تحكم المجتمع الدولي وتضبط سلوكياته، منذ تحوَّل البشر من شعوبٍ وقبائل تتقاتل إلى ممالك ودول واتحادات تتعاون. تكون الدبلوماسية، إذاً، جملة الآليات والأساليب والفنّيات التي يتم عبرها تجنّب الصراع وتقريب التصالح، فلا جوع ولا خوف، بل استقرار وأمـان.
(2)
هذه السطور عن السودان، وعن اكتمال عام من حربٍ ضروس لم يهتدِ مشعلوها إلى التواضع لابتدار حوارٍ وتفاوض يخرجان بلادهم من ويلات الدّمار وإفناء البشر، وإحراق مؤسّسات الدولة وهياكلها جميعها. إنَّ الحوار والتفاوض هما السبيلان الوحيدان المتاحان لحلّ الخلافات بحُـسـنِ التفاهم السلميّ، لا بسـوءِ السـلاح المُدمّـر. ويتردّد كاتب هذه السطور في تصنيف الحرب في السودان، فهي حربُ بلـدٍ مع نفسه قضى فيها السودانيون أنفسهم على أخضر بلادهم ويابسها، فلا يصنّفها من وجـوه صـراع مع عــدو خارجي، كما لا يصنفها حرباً أهلية بين طرفين يتصارعان داخل حدودهما. وإنك لو أجلتَ بصرك فسترى من حسبوا أنفسهم وسطاء وأهلَ خيـر، من كلِّ حـدبٍ وصوْب، إقلـيمـييـن ودوليين وحاملي أجندات، قد تسمع من بعضهم قولاً عن حرب السودان إنها حربٌ منسية ولا مكان لها من الإعراب من بين كلِّ الحروب التي عرفها الناس. قبلها اندلعـتْ حربٌ بيـن روسيا وأوكرانيا، وبعدها اندلعتْ أخرى في قطاع غزّة مع دويلة إسرائيل. لكنّ حرب السودان لا تشـبه هذه ولا تلـك.
حربٌ منسية ولا مكان لها من الإعراب من بين كلِّ الحروب التي عرفها الناس
القاسمُ المشترك بين تلك الحروب الثلاث، وإنْ اختلفت مسبّباتها، هو الهوان الذي اعترى آليات المجتمع الدولي وأقعـد قدراته على احتواء مسبّبات مثل تلك الحروب، فيما لا يخفى عن أعين المجتمع الدولي تورّط فاعلين خارجيين في صبّ زيت الفتنة على نيران الحروب الثلاث. لم يُخفِ الاتحاد الأوروبي ولا الولايات المتّحدة خطوط إمداداتهما لأوكرانيا، كما لم تُخفِ الولايات المتّحدة خطوط إمداداتها للحليف "المُبجّل" في الشرق الأوسط؛ دويلة إسرائيل الساعـية إلى تدمير الفلسطينيين دماراً شاملاً بسلاح أميركي. ... أمّا عن السودان فقـد اتبعت دبلوماسـية جنرالاته ســـبيلاً آخر.
(3)
فوجئ مجلس الأمن في المنظمّة الأممية بتقديم جنرالات السودان، الذين صاروا حكّامَ أمرٍ واقعٍ في الخرطوم الغائبة، شـكوى في أكثر من 40 صفحة، يتهـمـون فيها ثلاث دول أعضاء في الأمم المتحدة بالتورّط في حربٍ تدور رحاها داخل السودان، يخوضها متمرّدون سـودانيون ضدّ جيش الدولة السـودانية الرســمي. قد يعجب المرء حين يسمع أنّ دولة عـربية يشكوها السودان إلى الأمم المتحدة، فيما للسودان ولتلك الدولة العربية المُتهمة عضويتهما الكاملة في منظمّة إقليمية هي جامعة الدول العربية (!) والأعجب أيضاً، أن يشـكو السودان إلى الأمم المتحدة دولتين أفريقيتين أُخْرِيَيَنِ جارتين له، يشاركهـما السودان عضويةً كاملة في منظمة إقليمية أفريقية هي الاتحاد الأفريقي.
الحوار والتفاوض هما السبيلان الوحيدان المتاحان لحلّ الخلافات بحُـسـنِ التفاهم السلميّ، لا بسـوءِ السـلاح المُدمّـر
ماذا يقال عن جنـرالات السودان وقد توغّلـوا من قـبـل في مضيهم الشــرير إلى إجهـاض ثورة عظيمة خاضها الشباب السوداني، أسقط عبرها نظاماً ظالماً جـثم على صـدور آبائـهـم وأمهاتهم 30 عاماً؟ فتيات وفـتيان تفـتّحـت عيونهم على الدنيا ليجدوا جنرالاً اسمُه البشير يحكم بلادهم لا يعرفهم ولا يعرفونه، أعلن جنـرالاته وقـوفـهم الكاذب لنصرة تلك الثورة العظيمة، غير أنّ لهم ما أخفـوه من معـاول حفـروا بها مقبـرة لتلـك الثـورة، وغيّبوها تماماً. ها هُـم الآن وقد قطعـوا، هُـم ومن يصارعـونهم، أشــواطاً بعيــدةً في دمــار البــلاد، يسارعون إلى هـيئة الأمم المتحدة وهي في أضعف حالاتها، وهم أنفسهم الذين تعاملوا قبل ذلك مع منظمّات إقليمية، عربية وأفريقية، هم أعضاء فيها، بسـفهٍ وباستخفاف.
(4)
جنرالات السودان الذين يحاربون أنفسهم، ســواء جاؤوا من كـلّياتٍ عسكريةٍ أو مـن منازلهم وبواديهم، هُـم أكثر عجزاً من أن يُحسنوا مخاطبة المجتمع الدولي. لكأنهم لم يدركوا أنّ السودان الذي أكمل ما يقارب 70 عاماً منـذ نيله الاســتقلال، يملك جهـاز دبلوماسـية راسـخ الأداء عركته التجارب والخبرات، وفـيه من البـذل والمجـاهـدة والمساهمة في بناء الدبلوماســية العربية والأفريقية ما شهد به الكبار في جامعة الدول العربية، وفي منظـمّة الوحدة الأفريقــية التي صار اسمها الآن الاتحاد الأفريقي.
هل في جنرالات الخرطوم من سمع عن مشاركة جيش السودان ضمن قـوات في أول مهمّة عسكرية للأمم المتحدة في أزمة الكونغو عام 1960؟
تُرى، هل أدرك جنرالات الخرطوم أو شهدوا أو سمعوا بلاءات ثلاث أجيزت في الخرطوم عقب الهزيمة العربية عام 1967، لتعـيد إلى أمّـة العـرب بعض كبرياء أضاعته دولة الكـيان الصهيوني؟ وهل فيهم من سمع عن مشاركة جيش السودان ضمن قـوات في أول مهمّة عسكرية للأمم المتحدة في أزمة الكونغو عام 1960؟ ثمّ هل فيهم من ســمع عن قوات سودانيّة ضمن قوات عربيّة وقفت بين العراق والكويت في أوائل الستينيات أو عن الكتيـبة السودانية ضمن القوات العربيّة، بين بيروت الشرقية والغربية، في سبعينيات القـرن الماضي في لـبـنـان؟ تُرى هل أدرك جنرالات الخرطوم حقائق ذلك التاريخ، قـبـل أن يجأروا بالشكوى للأمم المتحدة من بعض دولٍ برزت للوجود بعد استقلال السودان بسنواتٍ طويلةٍ، فـإذا هُـم يُقزّمون قامـة بلـدٍ اسمه السودان، كان هو الأكبر قيـمـةً ومهـابةً؟ هل يدرك جنرالات السّـودان، الذين يحكمونه قـسـراً، أنّ دبلوماســـية الســودان التي أضاعوا بوصلتها هي التي شاركت بأقلام دبلوماسييها في صياغـة ميثاق منظمّة الوحـدة الأفــريقية عام 1963، في حين يكاد الاتحاد الأفريقي، الذي جاء من ضلع منظمّة الوحدة الأفريقية السابقة، أن يُقصي السّـودان من عضويته كما يُقصَى العنـزُ الأجرب مِـنْ قطيعـه؟
(5)
حين اجتمع الوسطاء في جدّة، كان من المثير للعجب والدهشة أن يطالب ممثلو طرفٍ من الطرفين السودانيين المتحاربين بأن لا يشـارك أيّ دبلوماسِـي من السودان في الحـوار بـيــن المتصارعين، وذلك ما يعزّز النية المبيتة لتغييب أيّ دور أو ذكر للدبلوماسية السودانية، والحوار لوقف الحرب في الأصل عمل دبلوماسيّ بامتياز. لكَ أن تتصوّر أن من جـاؤوا يجلسون للحوار والمسدّسات تتدلى على خصورهم، هم من قدّموا لإيقاف تلك الحرب.
للسودان الذي يحكمه جنرالات يقاتلون أنفسهم بأنفسهم ســفاراتٌ في الخارج عاجزة ليسَ إلّا، لأنها مُغيّبة بإرادة فاعل. هي دبلوماسية جالسة في مقاعد المتفرّجين خارج البلاد، فيما الصراع مُحـتـدم بين متصارعين لا يدركون أيّ بلـدٍ أضـاعوا.
شــكوى تُرفع عبر أوراق رسميّة باسم السّـودان إلى مجلـس الأمـن، تثير السخرية في تجاوزها التقاليد والأعـراف والأساليب الدبلوماسيّة المرعيّة، فالدول التي شكاها الجنرالات، ولا نقول الدبلوماسية السودانية، هي دولٌ ما زال للسودان ســفراء ودبلوماسيون معتمدون فيها، وكانت من أولى مهامّهم إدارة قنوات التواصل والتفاهم بين بلادهم وتلكم البلدان القريبة والجارة.
لنا أن نتصوَّر خـاتمة درامية لتلك المهزلة في ما لـو بلغتْ أوراق الجنرالات ومذكّراتهم تلك بالفعل إلى الأمين العام للأمـم المتحـدة أنطونيو غوتيريس، ولنا أن نتصوّره يطلب من دبلوماسيي السودان العاملين في الأمم المتحدة أن خذوا أوراقـكم هذه إلى جيـرانكم، لتنظروا أياً منهم تصالحون أو يصالحونكم، فأنتم والـلـه من أهـل كهـف الدبلوماسـية، يا رعاكم الـلـه.