الشارع التونسي .. موازين قوى ورسائل
كان الشارع مهملا، مفهوما أو فضاء فعل جماعي، حتى بدأ ينتبه إليه، منذ نحو عقدين، عالم الاجتماع الأميركي من أصول إيرانية، آصف بيات. أعاد الاشتغال عليه، لينحته مفهوما دقيقا في تحليل التغيرات التي حلت في المجتمعات العربية (مصر، الأردن...) ثم الثورات والحركات الاجتماعية العربية. منذ تلك اللحظة، كانت للشارع العربي، كما يسميه بيات، أصداء مدوية في شوارع غربية عديدة: الأميركية والبريطانية والإسبانية وغيرها.
أما في تونس، فقد تم الانتباه إلى الشارع، وعظمته تحديدا، حين تم إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي من شارع الحبيب بورقيبة، في 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني) من سنة 2011، وهو حدث تأسيسي في إدراك قوة الشارع الفائقة. امتدت حركة الناس لتستحوذ على الشارع وتحتل الفضاءات التي كانت مسيجة: ساحات وحدائق عمومية و"أنهج". تم اكتساح هذه الأمكنة وتحويلها إلى فضاءات عمومية، يتم فيها التعبير عن الآراء واتخاذ القرارات ومناهضة السياسات وإسقاط الحكومات أو مساندتها.
لم يكن الشارع من قبل يعني شيئا. كان الناس يستعملونه استعارة، للدلالة على كيان هلامي، هو أقرب إلى الرأي العام، أي ما يرادف المزاج العام. لم يكن لهذا الشارع قبل الثورات العربية دلالة سياسية، بل كان مكانا أخرس بلا قسمات، يعبره المارّة والعربات، ويملأه الباعة المتجولون، وتغمره، من حين إلى آخر، البضاعة المهرّبة، وهي تتكدّس على جانبيه. كانت القبضة الأمنية التي أحكم بها النظام سيطرته على الشارع قد شلّت حركته، وبسطته مكانا للأمن والمراقبة، غير أن الأمر تغيّر جذريا، وأصبح الشارع قوةً سياسية، تضاهي ما لصناديق الاقتراع أحيانا. استطاعت حركة الشارع، في طور الانتقال الديمقراطي، أي خلال هذه العشرية، أن تغير سياساتٍ كثيرة، أسقطت حكوماتٍ، وأجهضت مبادرات، وعدلت سياسات .. إلخ.
جدل حاد والتباس مضن ومربك ينهكان الديمقراطية التونسية الممزقة بين سلطتي الديمقراطية والشارع
انتظمت في تونس انتخابات دورية منذ سنة 2014، وأفرزت الصناديق نوابا منتخبين، تشكلت منهم حكومات، ولكن الجميع في تونس ظل يخشى الشارع، حتى تحول فاعلا سياسيا أقوى من الحكام الذين صعّدتهم إرادة الناخبين إلى سدة الحكم. لم تفلح البلاد بعد في صياغة المعادلة الحكيمة بين قوة الصندوق وقوة الشارع. ثمّة جدل حاد والتباس مضن ومربك ينهكان الديمقراطية التونسية الممزقة بين سلطتي الديمقراطية والشارع، بين شرعيتي الصندوق والشارع، خصوصا في سياق الأزمات السياسية الحادّة التي تلاحقت على البلاد. ولكن اليسار تراجع بعد انتخابات 2019، وانسحب تقريبا بشكل كلي من المشهد السياسي الرسمي، فنوابه في البرلمان بعدد الأصابع. ومع ذلك علينا أن نقرّ أن هذا اليسار بالذات يجيد التموقع في منظمات المجتمع المدني، نقابات وجمعيات، تحظى بكثير من القبول في أوساط النخب، ولها القدرة الهائلة على أن تضغط، حتى لو كان ذلك بشكل سافر، مثلما آل أمر الرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي تحولت، في السنوات الأخيرة، إلى ناطق باسم حزب يساري بعينه، أقصى حتى أقرب رفاقه وحلفائه من اليسار ذاته.
وفي هذه السياقات، تمر تونس بأزمة سياسية حادّة، تصادمت فيها رئاسة الحكومة والمسنودة من البرلمان ورئاسة الجمهورية التي تعتقد أن الشعب معها وأن الشارع يؤيدها، اندلعت تحرّكات احتجاجية، استطاعت أن تحتل الشارع ليالي عديدة بداية الشهر الفارط (فبراير/ شباط). وبدأ اليسار يلوّح، بصريح العبارة هذه المرة، بإسقاط الحكومة والبرلمان معا، أي ما يعدّه "كنس المنظومة السياسية"، بل دعا إلى إلغاء ما ترتب عن انتخابات 2019، والذهاب إلى "حكومة ثورية". كما بدت مبادرات الإنقاذ تتناسل من بعضها بعضا.
الديمقراطية العريقة، وإنْ تقرأ للشارع ألف حساب، فإنها لا تمنحه الشرعية، حتى ينقلب على حقائق الصندوق
وحتى لا يُلدغ المؤمن من الجحر مرّتين، بادرت حركة النهضة، وهي تتذكّر كيف استسلمت إلى اعتصام الرحيل سنة 2013، وتخلت عن الشارع، تغليبا للمصلحة الوطنية، وتجنّبا لحرب أهلية، عمل بعضهم على خوضها ضمن ما يعرف بـ"السيناريو ب"، على حد تصريح الأمين العام الأسبق للاتحاد العام التونسي للشغل، الحسين العباسي .. بادرت هذه المرة بالنزول إلى الشارع فيما يشبه "بروفة" على استعماله عند الاقتضاء، أو على الأقل اختبار وزنها، ليس الانتخابي طبعا، بل "الشوارعي". ومن سوء الحظ أن حزبا يساريا رهن كل وجوده لمعاداة "النهضة"، قد اختار بغباء النزول إلى الشارع في اليوم نفسه، ولم تفصله عن "النهضة" سوى عشرات الأمتار. ثم بعد أسبوع، عاد اليسار، أول من أمس السبت، جمعيات ومنظمات وطنية وأحزاباً، إلى الشارع، للدفاع عن قضايا عديدة: إطلاق سراح الموقوفين على خلفية احتجاجات جانفي (يناير/ كانون الثاني)، التنديد بموت موقوف في مركز شرطة في مدينة صفاقس قبل أيام، تنقيح قانون متعلق بـ"استهلاك المخدّرات" .. إلخ. غير أن الخيبة أصابت الجميع، فعلى الرغم من نبل هذه القضايا، لم يشارك سوى مئات في حركة الشارع هذه.
وفي اليوم نفسه، يطلق رئيس الحكومة، هشام المشيشي، تصريحه المدوي، إنه لن يستقيل، وإن معاركه الحقيقية هي الصحة والتنمية والتشغيل، وإنه لا يصارع الطواحين، في إشارة بليغة إلى خطاب رئيس الجمهورية، قيس سعيد، وعالمه الدونكيشوتي المتوهم. لقد قرأ المشيشي موازين القوى التي عبر عنها الشارع في سبتين متلاحقين، ولكن علينا أن نستحضر أن الديمقراطية العريقة، وإنْ تقرأ للشارع ألف حساب، فإنها لا تمنحه الشرعية، حتى ينقلب على حقائق الصندوق. وموازين القوى والرسائل التي أفرزها ستظل معضلة الشارع، وتلاحق التجربة التونسية وتربكها ردحا طويلا.