الصومال في استحقاق انتخابات رئاسية إنقاذية
أخيراً، وبعد طول انتظار، يسدل الصومال الستار عن استحقاق انتخابي رئاسي هام بعد غد الأحد (15 مايو/ أيار)، بعد تأجيل متكرّر رافق مسيرة الانتخابات التشريعية والرئاسية التي شهدتها البلاد منذ عام 2021، وهو استحقاقٌ كاد يفجِّر أزمات أمنيةً واقتصاديةً نتيجة حدوث تصدّعات داخل المؤسسة العسكرية وانقسامها بشأن الخلافات السياسية بخصوص آلية تنظيم الانتخابات، فضلاً عن إثارة نعرات عشائرية بين القبائل القاطنة في الجنوب الصومالي، وهو ما قد يهدّد النسق الاجتماعي والتوازنات العشائرية التي فرضتها وأملتها ظروف البلاد التي عانت من ويلات الحرب الأهلية والصراعات المريرة التي أعاقت عقودا جهود بناء الدولة وتحقق المسار الديمقراطي في الصومال.
تفاقم الخلاف السياسي بين الرئيس المنتهية ولايته محمد عبدالله فرماجو ورئيس حكومته محمد حسين روبلي، في نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بشأن آلية ترتيب الانتخابات، ما دفع رئيس البلاد إلى تجميد مهام رئيس الحكومة ليردّ الأخير بإعلانه أن الرئيس فرماجو يريد الانقلاب على الشرعية، ويمارس إجراءاتٍ لتقويض المسار الديمقراطي الوليد في البلاد منذ انتخابات عام 2012، ما حضَّ بعد ذلك الأسرة الدولية، وخصوصا واشنطن، على الوقوف إلى جانب رئيس الحكومة على حساب رئيس البلاد، بدعوى أن الأخير انتهت فترة حكمه في فبراير/ شباط عام 2021، هذا فضلاَ عن تهديداتٍ دوليةٍ من صندوق النقد والبنك الدوليين بتعليق المساعدات المالية التي تُمنح للصومال لدعم ميزانيتها، إذ لا تحصل الحكومة الفيدرالية على إيرادات مالية كافية لميزانيتها سوى 35% فقط، لصرف رواتب الموظفين والجنود، بينما يتكفّل المجتمع الدولي توفير الباقي (65%) للحكومة الفيدرالية التي لم تقم اقتصادياً على ساقيها بعد، بفعل تحدّياتٍ داخليةٍ وأخرى خارجية.
أعلن 39 شخصاً ترشّحهم لمنصب الرئاسة الصومالية، وهو ما لم يحدُث سابقاً، فبعض هؤلاء غير معروفين في الوسطين، السياسي والاقتصادي
وبعد مخاضٍ عسير، اقترب الموعد الاستحقاقي الانتخابي المهم للبلاد، ويترقّب الداخل والخارج مآلات هذه الانتخابات الرئاسية التي تعقد داخل قاعدة عسكرية تابعة للقوات الأفريقية، نظراً إلى التحدّيات الأمنية في مقديشو التي لا تفارقها مفخّخات الموت، خصوصا المتفجرات البشرية المتحركة (Suicide Bomber)، التي صارت تقضّ مضاجع الصوماليين بعد استحالة تنفيذ التفجيرات الانتحارية الضخمة بالسيارات المفخخة من حركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة، نتيجة الإغلاقات والاحترازات الأمنية في العاصمة، هذا إلى جانب عدم استشعار المسؤولين في الحكومة الفيدرالية أهمية ترتيب إجراءاتها الأمنية، وتمكين البلاد من استقرار أمني حتى في الجيوب المهمة للدولة في العاصمة، وتظلّ مسألة الأمن هذه معقدة وشائكة في آن. ولهذا تأتي في سياق أولويات برامج المرشّحين للانتخابات الرئاسية، حيث إن إعادة تشكيل الجيش الصومالي وفرض الأمن في البلاد باتا شعار جميع المرشّحين، ولكن معظم الوعود التي يقطعها المرشّحون على أنفسهم يبدو أنها تذهب أدراج الرياح فور انتهاء العرس الانتخابي.
في سابقة تاريخية جديدة في الانتخابات الرئاسية الراهنة، أعلن 39 شخصاً ترشّحهم لمنصب الرئاسة الصومالية، وهو ما لم يحدُث سابقاً، فبعض هؤلاء غير معروفين في الوسطين، السياسي والاقتصادي، ما يعني أن هستيريا الحكم وحب الرئاسة أصابا الصوماليين في مقتل، ولهذا استحدثوا نظاماً فيدرالياً بخمسة رؤساء يجوبون الدول الإقليمية وبعض الدول الخليجية، ويجري استقبالهم بمراسم فخمة كأنهم رؤساء تحت راية دولة أفريقية واحدة في القرن الأفريقي، ما شَّوه حلم الصومال الكبير الذي دافع كثيرون من أجله، وقضى نحبه آخرون منذ فجر الاستقلال عام 1960.
يتوقع محللون عديدون أن يتمكّن الرئيس السابق حسن شيخ محمود من الفوز بمنصب الرئاسة مجدّداً، إذا لم تطرأ مفاجآت جديدة
وعلى الرغم من تراجع شعبية الرئيس الحالي، محمد عبدالله فرماجو، مقارنة بما كانت عليه سابقاً قبل رئاسيات عام 2017، إلا أنه ما زال يعد مرشّحاً قوياً منافسا ثلاثة آخرين، الرئيس السابق حسن شيخ محمود (2012 - 2016) ورئيس الحكومة الفيدرالية السابق حسن علي خيري (2017- 2020) ورئيس الصومال الأسبق شريف شيخ أحمد (2009 - 2012)، إلى جانب آخرين بارزين، مثل طاهر محمود جيلي وعبد الرحمن عبد الشكور وعبد الكريم حسين جوليد، لكن المرشّحين الأربعة الأكثر حصداً لأصوات النواب في الجولة الأولى من الانتخابات يذهبون إلى الجولة الثانية، وبعدها يبدأ العد التنازلي لمعركة انتخابية بين مرشحيْن. ويتوقع محللون عديدون أن يتمكّن الرئيس السابق حسن شيخ محمود من الفوز بمنصب الرئاسة مجدّداً، إذا لم تطرأ مفاجآت جديدة كما العادة في الانتخابات الصومالية التي تفرز أحياناً وجوهاً جديدة.
تتشابه خطابات المرشّحين البارزين في الانتخابات، وكذا وعودهم الانتخابية التي تمحورت حول تحسين العلاقات الخارجية وفرض الأمن وتحقيق العدالة، لكن تبقى مسألة تنفيذ تلك الوعود بعد الانتخابات عالقة، وربما لن ترى النور، نتيجة عدم توفّر خبرة سياسية لدى كثيرين من مرشّحي الانتخابات، إلى جانب هول التحدّيات التي يقبع فيها الصومال منذ عقود، والتي لن يتمكّن الصوماليون من تفكيك عُقدها إلا بعد إجراء مصالحاتٍ حقيقيةٍ بين مكوّنات المجتمع، واستلهام تجربة رواندا في نبذ العنف، من خلال فرض استقرار داخلي أكيد، قبل ترميم تصدّعات الصومال الخارجية، فالتجارب التي يمكن أن تلهم الصومال كثيرة في محيطه الأفريقي، لكن الصوماليين يأبون أن يحتذوا بها، ما يحبط آمال كثير من فئات المجتمع، ويدفع الشباب تحديداً إلى الهجرة غير الشرعية أو الانضمام إلى عوالم هالكة لا تُحمد عقباها.
تعدّ الانتخابات الرئاسية الحالية، في نظر كثيرين، تجربة جديدة لمدى جهوزية النخبة الصومالية في وضع خلافاتهم السياسية العقيمة جانباً
مع كثرة التحدّيات الأمنية والسياسية التي تواجهها عملية بناء الدولة في الصومال واستعادة هيبتها شيئاً فشيئاً، فإنّ فرص استنهاض هذا العملاق المكبّل بتحدّيات الداخل والخارج متاحة لكنها تحتاج إرادة سياسية من النخبة السياسية الصومالية في الاستجابة لمتطلبات مرحلة بناء الدولة وتغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة. وتعدّ الانتخابات الرئاسية الحالية، في نظر كثيرين، تجربة جديدة لمدى جهوزية النخبة الصومالية في وضع خلافاتهم السياسية العقيمة جانباً، والتفكير جيداً خارج صناديق العشيرة وفكّ ارتباطها بدول خارجية لا تهمها مصلحة الصومال بقدر تحقيق أطماعها التاريخية والاقتصادية، وهو ما يمكن الصومال بعد ذلك أن تطأ أقدامه على سكّة الاستقرار، أمنياً وسياسياً.
في النهاية، لا خلاف على أن الديمقراطية الوليدة في الصومال مبهرة في جوهرها، خصوصا في جمهورية ما تسمى أرض الصومال (صومالاند) التي أعلن انفصالها من جانب واحد عام 1991، مقارنةَ ببقية الدول الأفريقية، سيما في محيطها الجغرافي، إذ تتحوّل الانتخابات إلى دكتاتورية فاشية تكرس حكم الفرد الواحد المطلق، أو ربما ستجرّها إلى حربٍ مدمرةٍ كما حصل في إثيوبيا أواخر عام 2020 في أزمة إقليم التيغراي تحديداً، وشهد الصومال في غضون 15 عاماً أربعة رؤساء، ما يوحي أن ممارسة الديمقراطية في التداول السلمي للسلطة تبدو ناجحة، وتعيد إلى الأذهان إلى الانتخابات التي شهدتها البلاد في حقبة الستينيات من القرن الماضي، عندما تنازل الرئيس الراحل آدم عبدالله عثمان عن الحكم عندما خسر انتخابات 1967، ليصبح أول رئيس أفريقي يسلم السلطة سلمياً. والحال نفسه ينطبق على الرئيس الصومالي السابق، حسن شيخ محمود الذي تنازل عن خوض الجولة الثالثة في انتخابات عام 2017 لصالح الرئيس الحالي محمد عبدالله فرماجو، توسّط بعدها الأخير بين رئيسين سابقين (شريف أحمد وحسن شيخ) ورفعوا أيديهم معاً، في صورةٍ جسَّدت مدى الاستعداد الفِطري للصوماليين لتوريث الحكم واحداً بعد الآخر. فهل يسلم الرئيس فرماجو الحكم لخلفه إذا خسر الانتخابات؟