العدوان على غزّة: نزاعات الوطني والقومي
يمنحنا العدوان الصهيوني على غزّة فرصة قيمة لتحليل مختلف الشروط التي أملت المواقف تجاه ما حدث، سواء صدرت عن الأنظمة الرسمية أو الشعوب العربية. تبدو الخطوط التي رسمت خرائط ردود الأفعال متشابكة ومعقدة. لكن الحصول على بعض المفاتيح يظلّ ممكنا، رغم كل هذا التداخل، حتى نقرأ من خلالها ردود الأفعال تلك، فتبدو واضحة الى حدٍّ كبير: فالدول التي طبّعت مع الكيان الصهيوني، أو هي بصدد التطبيع، حتى وإن بدت الخطوات بطيئة والألسن متلعثمة لم تسند المقاومة. لم تجرؤ بعض الأنظمة العربية، حتى على إصدار مواقف واضحة تدين العدوان، بل ذهب بعضٌ منها إلى إدانة المقاومة، وساوت بين الجاني والضحية، ولم تتدرج في موقفها إلا قليلا حين بلغت المجازر أوج وحشيتها، فدعت إلى حماية المدنيين ووقف إطلاق النار. وفي كل تلك المفردات التي صاغت بها مواقفها، لا شيء يوحي أننا أمام كيان غاصب يحقّ للشعب الفلسطيني أن يقاومه بكل ما أوتي من وسائل وإمكانات متاحة. والموقف من حركة حماس ليس إلا ذريعة، فقد عرفت هذه الأنظمة، منذ عقود، بمواقف في جل المحطّات الحارقة التي عرفها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. أما الشارع في هذه البلدان فقد كانت ردود أفعاله محتشمة إلى حدّ ما. لم نشهد مظاهرات أو تجمّعات تعبر فيها تلك الجماهير عن سخطها وغضبها ومساندتها غزّة. كما أن قيادات الرأي فيها من سياسيين وفنانين ورياضيين لاذت بالصمت.
تشكل سلطة أوسلو في الضفة الغربية النموذج المثالي لحالة التطبيع الرسمي الذي دفع السلطة هناك إلى تبنّي خطاب متلعثم تجاه ما جرى في غزّة
لا شك في أن منع التظاهر ومصادرة حريات التعبير والرأي، علاوة على غياب فضاء عمومي حرّ قد كرّس هذه الوضعية. لم نشاهد مثلا في الدولتين اللتين طبّعت حكومتاهما مع الكيان الصهيوني ما اعتدنا عليه سابقا. كانت مهرجانات التسوق ومباريات كرة القدم من أحداث كبرى حاولت وسائل الإعلام أن تشدّ إليها اهتمامات الناس، رغم ما يعتمل في قلوب الناس وأفئدتهم من مشاعر ألم. كما أن المشهد الإعلامي، الرسمي منه تحديدا، كاد ينقطع عن تغطية المشهد الدامي في غزّة. أما في الأردن، على الرغم من علاقات التطبيع بين الحكومة فيه ودولة الاحتلال، فإن المشهد السياسي تعددي، وتحرص المنظمات المهنية والأهلية على الدفاع عن القضايا القومية للأمة. وفي مصر، دفع اقتحام آلاف المصريين ميدان التحرير في القاهرة لأول مرة منذ أحداث سنة 2013 للتظاهر نصرة لغزة السلطة إلى الإقدام على حملة اعتقالات، سرعان ما دفعت المتظاهرين إلى الانكفاء والتراجع، غير أن الجماهير المصرية التي تراجع حراكها لا يمكن كبح مشاعر غضبها، لذلك اشتبكت مرارا مع قوات الأمن التي حاولت منع اعتصاماتها، وما زال حراك الشعب المصري ظاهرا من أجل إعلاء صوته العربي المناصر لفلسطين. أما المغرب الذي عرف تاريخيا بمساندة القضايا العربية، والذي شهدت ساحاته أكبر المظاهرات العربية نصرة للعراق والانتفاضات الفلسطينية المتتالية، فإن نبض شارعه، وإن خبا نسبيا، ظلّ منتفضا مساندا المقاومة، وشهدت كبرى المدن المغربية مظاهرات حاشدة.
تشكل سلطة أوسلو في الضفة الغربية النموذج المثالي لحالة التطبيع الرسمي الذي دفع السلطة هناك إلى تبنّي خطاب متلعثم تجاه ما جرى في غزّة، خصوصا في الأيام الأولى، بل عمدت قوى الأمن هناك إلى شن حملة اعتقالات، شملت أنصار تنظيمات فلسطينية، وخصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين، بل ذهب الرئيس محمود عبّاس إلى سحب الشرعية القانونية والأدبية مما قامت به "حماس"، مساويا بين الكيان المحتل والمقاومة. ورغم تراجعه لاحقا، على اعتبار أن حديثه أُخرج من سياقه، ظلّ الأمر غاضبا ملتبسا. وعلى الأرض، تجري اشتباكات بين المقاومة وقوات الاحتلال، فضلا عن أشكال مختلفة من تضامن أبناء البلد الواحد.
أنظمة عربية عديدة عاشت عقوداً، وهي تستثمر القضية الفلسطينية لإحكام قبضتها على شعوبها وتخوين المعارضين
أما البلدان التي ما زالت تناهض التطبيع فقد صدرت عنها مواقف رسمية مساندة للمقاومة الفلسطينية، دانت الاعتداءات الإسرائيلية. صاغت مواقفها بعبارات مختلفة، فمنها من استند إلى سجل الشرعية الدولية، ومنها من استند إلى حقّ مقاومة المحتل، ومنها من استحضر تاريخا طويلا من الاستعمار الاستيطاني البشع ... إلخ، وقد تناغمت هذه الدول في مواقفها الرسمية، إلى حد ما، مع المواقف الشعبية. لقد شهدت هذه البلدان مظاهرات سلمية، أطّرتها الأجهزة الأمنية، وشاركت فيها معظم الفعاليات المجتمعية والسياسية، كما تولّى الإعلام تغطية الحرب، كما عرفت أيضا مبادرات رسمية ومدنية من أجل جمع التبرّعات لغزّة. حدث ذلك في تونس والجزائر وليبيا وغيرها. وفي هذا التطابق، أحيانا، على مفارقاتٍ كثيرة. ثمّة أنظمة عربية أقرب إلى الشمولية، ففي حين أنها تضيّق على حرية التظاهر كلما تعلّق الأمر بمسائل وطنية داخلية، كالحريات وغلاء الأسعار، إلا أنها أبدت تسامحا مريبا مع التظاهر نصرة لغزّة. ولعل هذا الأمر ينطوي على كثير من الدهاء، يُراد منه تنفيس الاحتقان المتراكم وقطع الاهتمام بالمشكلات المتراكمة على المستوى المحلي. ومن ذلك أن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، عاب على خصومه مساندة المقاومة، واعتبر ذلك مزايدة انتخابيةً سابقة لأوانها. ومعلوم أن أنظمة عربية عديدة عاشت عقودا، وهي تستثمر القضية الفلسطينية من أجل إحكام قبضتها على شعوبها وتخوين المعارضين باسم ضرورة التفرّغ لمصارعة الإمبريالية والرجعية: كانت مصر عبد الناصر وعراق صدّام حسين وسورية حافظ الأسد نماذج للتوظيف السيئ للقضية الفلسطينية، من أجل قمع شعوبها. لقد تراجعت هذه الحالة ولكن ظلالها ما زالت متواصلة إلى حدّ ما.
بقطع النظر عن مآلات العدوان الصهيوني على غزّة، فإن آثارها ستظل غائرة في وجدان سكان غزّة، غير أن جملة من التحولات العميقة قد بدت تتشكّل تدريجيا، لعل أهمها أن أجيالا شبابية في العالم العربي، والعالم عموما، قد ساندت المقاومة، واعتبرتها حقّا مشروعا. ولازم هذا الموقف تمييزٌ واضح بينها وبين الإرهاب. لا شك أن شرخا وجدانيا غائرا حفر بين الغرب و"نحن". ربما قد تتشكّل في السنوات المقبلة ثقافة ما ترغب في التخلص من إرث ثقافي، بدا أنه مصاب بشيزوفرينيا، كلما تعلق الأمر بشعوبٍ خارج مركزيّته المريضة.