العراق الذي يهدّد العالم!
تولّى صدّام حسين السلطة في العراق في زمن كان العالم فيه مقسّماً الى معسكرين؛ اشتراكي وليبرالي، وبين الجبهتين القويّتين آنذاك تطفو دول من عالم الجنوب، تتأرجح على سطح المياه السياسية المضطربة، وتحاول الاستفادة من مزايا "الحياد"، أو اللعب على الحبال، بوحيٍ من فكرة الاستقلال الوطني، أو خوفاً من إملاءاتٍ مباشرةٍ من هذه القوة العظمى أو تلك.
كان نظام البعث الاشتراكي في العراق قريباً في واقع الحال مع الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، ولكنه يتمتّع بعلاقات طيّبة مع فرنسا الاشتراكية برئاسة فرانسوا ميتران وجاك شيراك ودول غربية، وجزء كبير من العالم الهائم في منطقة الحياد. ثم جاءت تداعيات الحرب العراقية الإيرانية لتفرض على الغرب الرأسمالي ضرورات الحضور أكثر على الساحة العراقية، خصوصاً في 1982، حين صار من المحتمل أن يخسر العراق أمام تقدّم الجيش الإيراني في مناطق الخاصرة "مندلي وزرباطية"، وهي أقرب النقاط الحدودية مع إيران باتجاه العاصمة بغداد.
لعب صدّام على هذه الحبال السياسية، مستثمراً خشية الغرب من نظام إيران الأصولي، واحتمال أن يكون مهدّداً مصادر الطاقة في المنطقة إن نجح في احتلال العراق، ما ساعد تدريجياً في ترطيب العلاقة مع الغرب الرأسمالي، وفي مقدّمته الولايات المتحدة، وساهم الدعم الغربي في صمود العراق أمام إيران، ومدّ العراق بأسباب البقاء، وهذا ما كان مصدر الصورة الدعائية التي روّجتها إيران بقوّة أن نظام صدّام عميلٌ للغرب وأميركا، وأن إيران كانت لا تحارب نظام صدّام فحسب، وإنما الغرب "الاستكباري" من خلفه أيضاً.
جاءتنا من تلك الفترة فرضية أن الغرب، والمجتمع الدولي بشكل عام، لا يريد أن يسقط العراق، الواقع في قلب منطقة حسّاسة جيوبوليتيكياً، في غياهب الفوضى. إنه مهم، لأن من الممكن أن يكون مضرّاً، وليس لأنه مساهمٌ فعّال في مساحاتٍ أخرى من الاقتصاد والسياسة، فقد أثبتت وقائع حرب الخليج الثانية، ثم تداعياتها، أن في الامكان "تعويض" مساهمة العراق في الاقتصاد العالمي، بدفع الشركاء في "أوبك" إلى زيادة الإنتاج النفطي بما يسدّ حصّة العراق النفطية في السوق العالمية.
كان من النتائج المأساوية أن معلّقين غربيين قد توصلوا، في النصف الثاني من عقد التسعينيات، إلى استنتاج مفاده بأن العالم نسي العراق، فقد أحاطه بسورٍ عازل، يقيم داخله نظامٌ ضعيف منزوع الأسنان، يعاني من الانهيارات الداخلية المتسارعة، بسبب تراجع الوضع المعيشي والصحي وتوقف عجلة التنمية. ولا يبدو العالم إزاء هذه الأوضاع مكترثاً بما يكفي لتدعيم فكرة أهمية العراق إقليمياً ودولياً، بل بالعكس؛ كان هناك ما يشبه الارتياح من انسحاب العراق من شؤون الشرق الأوسط، وأنه لم يعد يشكّل تهديداً لأحد. حتى مع التوتّر بشأن لجان التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل، والذي غطّى كامل عقد التسعينيات، فإن القناعة السائدة أممياً أن مماحكات نظام صدّام لم تكن تُخفي برامج تسليح شامل، وإنما محاولة أن يكون في منطقة الغموض بشأن هذه النقطة، حتى لا يبدو ضعيفاً أمام إيران. أما ادّعاء أميركا أن حرب "حرية العراق" في 2003 كانت لإنهاء التهديد الإقليمي والدولي لنظام صدّام فكان مضحكاً تماماً. والأكثر سخرية ومرارة ادّعاء أن هذه الحرب جاءت من أجل مصلحة الشعب العراقي، لأن هذا الشعب كان قد انطحن تحت العقوبات الدولية أكثر من عقد، وتصحّرت الدولة العراقية تماماً. وكان من الأجدى لو أن أميركا والدول المتحالفة معها قد فكّرت بهذا الشعب مبكّراً!
المحطّة الأخرى للشعور بتهديد العراق كانت في إدراك إدارة بوش حاجتها لزيادة عديد قواتها في العراق بعد الاحتلال، من أجل مواجهة التداعيات الأمنية الخطيرة، ثم مع لحظة بترايوس في 2008 لمواجهة القاعدة والمليشيات الشيعية على حدّ سواء. أما آخر محطّة فكانت في يونيو/ حزيران 2014 مع احتلال تنظيم داعش ثلث مساحة العراق، والعراق اليوم ما زال يعيش في ظلّ الحماية الدولية، خشية أن يؤدّي اضطرابٌ أمني إلى بروز "داعش" من جديد أو أي تنظيم إرهابي مسلّح آخر.
ومثلما كانت تقديرات صدّام خاطئة في جعل أهمية العراق للمجتمع الدولي مرتبطةً بما يمثّله العراق من تهديدٍ للمنطقة، يخطئ النظام الحالي أيضاً حين يعتمد كليّاً على ما يمثله هذا الخطر من ثقل وأهمية، فتسترخي الأحزاب والتيارات السياسية الحاكمة في طمأنينةٍ مزيّفة، ولا تفعل شيئاً يعزّز أهلية العراق، لكي يكون شريكاً أساسياً في مصالح المنطقة الاقتصادية والسياسية، وأهمية هذا البلد العريق للعالم، خارج دائرة حصّته من السوق العالمية من الصادرات النفطية، وأن يكون دولة فعلية متكاملة الأركان، وليس مجرّد خاصرةٍ أمنيةٍ رخوة مقلقة للمنطقة والعالم.