العراق وحاجته لديكتاتور عادل
قال رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الأسبق، الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، إن "العراق بحاجة إلى ديكتاتور عادل"، وذلك في ردّ منه على سؤال المذيع فراس كيلاني، في ختام مقابلة مع تلفزيون "بي بي سي"، عن الحل الذي يراه مناسباً لعراق اليوم، في الذكرى العشرين لغزو العراق. وعقّب المذيع بأنه عاد لتوه من العراق، وسمع الجملة نفسها في مناطق عراقية مختلفة.
إذن، بعد عشرين عاماً من الديمقراطية التي بشّرت بها الولايات المتحدة العراقيين إبّان غزوها بلدهم، صرنا نبحث عن ديكتاتور، وليكن عادلاً أفضل، ليحكم العراق، ويستعيد السيطرة على بلدٍ بات كل شيء فيه منفلتاً، ولا يخضع لمعايير الدولة ولا إدارتها، بلد تحكُمه وتتحكّم به المليشيات، تدير سياسته الداخلية واقتصاده، توجّه علاقاته مع دول الجوار، تفرض نمطَها في التعامل مع مختلف القضايا المجتمعية، تشيع فيه المخدّرات إلى حدٍ وصل الأمر بمديري المدارس لأن يفتشوا علب المكياج لطالبات الثانوية، خشية وجود حبوب الكريستال المخدّرة فيها، بلد تجفّ أنهاره شيئاً فشيئاً، حتى خرج وزير الموارد المائية ليبشر الشعب العراقي بأن بلادهم، وفي غضون عشر سنوات فقط، ستصبح بلاد القناتين، لأن دجلة والفرات لن يكونا سوى قناتين صغيرتين... وليس هناك أكثر دلالة على الفشل الأميركي في غزوه العراق من هذه الحقائق وغيرها الكثير، الحقائق التي جعلت العراقي العادي والمسؤول العربي الفاعل يتفقان على صورة الحل المتوقعة، حاجة العراق إلى ديكتاتور عادل.
العراق واقع بين عدوين كاسرين، إيران وإسرائيل، يتحيّنان الفرص للانقضاض عليه
بعد أقل من شهر على احتلال العراق في عام 2003، وكنت حينها طالباً في مرحلة الماجستير في الجامعة المستنصرية ببغداد، يومها اختارت إدارة الجامعة مجموعة من الطلبة لمقابلة الأميركي المكلف بإدارة وزارة التعليم والتعليم العالي في العراق، في حكومة جي غارنر الذي قيل إنه جاء لبناء عراق ما بعد الحرب. كنّا من مختلف التخصصات، دخلنا قاعة كبيرة في مبنى اتخذ حينها مقراً لوزارة التعليم العراقية، بعد أن تضرّر المبنى السابق بشكل كبير جرّاء الحرب. توقّعنا أن نقابل شخصاً كبيراً في السن، كعادة الوزراء في بلادنا، فإذا بنا نُفاجأ بشخصٍ ربما كان بمثل أعمارنا أو أكبر بقليل، عرّف نفسه بأنه بروفيسور في التاريخ. وبدأ يتحدث عن خطّة بلاده لإعادة بناء العراق، ومنها طبعاً قطاع التعليم العالي، وقال إن العراق وخلال سنوات الحصار تخلّف علمياً بشكل كبير. بعد ذلك فتح باب الحديث لنا، فبدأ أحد طلاب كلية الطب بالحديث، تحدّث باللغة الإنجليزية. هنا استوقفه "الوزير"، وسأله: تتحدّث الإنجليزية؟ أجاب الطالب: نعم... ومن أين تعلمتها؟ أجاب: في المدرسة، وبعد ذلك في الجامعة، فنحن ندرس الطب بالإنجليزية... هنا فوجئ "الوزير"، وتبسّم، ثم رفع عينيه متعجّباً "قالوا لنا إن العراقيين لا يعرفون اللغة الإنجليزية، قالوا إن العراق قرّر إيقاف تدريسها عقب حرب 1991".
عينة صغيرة من الأميركيين الذين دخلوا العراق عقب الغزو في 2003، كانوا لا يعرفون شيئاً، على الأقل هذا الإحساس الذي شعرنا به ونحن نرى استغراب الرجل، وعلامات الدهشة على محيّاه، وهو يستمع لعراقي يتحدث الإنجليزية... ولكن هل كانت الولايات المتحدة تجهل العراق فعلاً؟ هل كانت تسير خلف ما تمليه أحقاد القوى العراقية التي كانت في الخارج، وكانت تُسمّي نفسها "معارضة"؟
قبل الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، صدر كتاب "التصدّي لصدّام حسين... جورج بوش وغزو العراق"، للأستاذ والمؤرخ الأميركي ميلفين ب. ليفلر، والذي يعدّ من أحدث الدراسات التي تناولت الغزو، بل ربما من أكثرها شمولية، لما تضمّنه من تفاصيل مهمة جداً. يكتب ميلفين أن إدارة بوش دخلت في أواخر عام 2001 حقبة جديدة من التعامل السياسي مع العراق، تمثلت بالدبلوماسية القسرية، حيث فرضت على صدّام شروطاً تعجيزية معروفٌ سلفاً أنه سيرفضها، لأنها تعني الانتحار، فالعراق الواقع بين عدوين كاسرين، إيران وإسرائيل، يتحيّنان الفرص للانقضاض عليه، لا يمكن في أي حال أن يقبل بنزع قدراته العسكرية، كما تريد إدارة بوش.
تحطيم قوة العراق لصالح إسرائيل كان أحد أهم الدوافع لغزوه
يخلُص ميلفين إلى أن قرار غزو العراق بالنسبة لجورج بوش، سبق حتى تفجيرات 11 سبتمبر (2001)، التي لم تكن سوى الوسيلة التي وصل من خلالها بوش إلى غايته، حيث يطرح المؤلف تفاصيل مهمة بخصوص ما قدّمته وزيرة الخارجية الأميركية في عهد بوش الابن، كوندوليزا رايس، للرئيس الذي سيدخل البيت الأبيض مطلع عام 2001، رئيساً لأميركا، وأشارت فيه إلى الخطة التي يجب أن يعمل لها للستة أشهر المقبلة لتأكيد قيادة أميركا العالم. تقول رايس في مطالعتها التي قدّمتها للرئيس قبل حفل تنصيبه بثلاثة أسابيع: "لا بد لنا من سياسة هجومية أكثر فعالية تجاه العراق، عقوبات الأمم المتحدة ضد العراق وصلت إلى طريقٍ مسدود، والقصف الدوري للعراق ضمن مناطق الحظر الجوي يجعل الأمور أكثر سوءاً".
تحطيم قوة العراق لصالح إسرائيل كان أحد أهم الدوافع لغزوه، يقول حمد بن جاسم في مقابلته مع "بي بي سي"، ويضيف أن حاكم العراق عقب الغزو، بول بريمر، زاره في الدوحة قبل توجهه إلى العراق، وطلب منه نصائح للتعامل مع الوضع العراقي. يقول "أبلغته ضرورة أن تَبقى هياكل الدولة، الجيش والأمن وغيرها من المؤسسات". ولكن بريمر حلّ الجيش والمؤسسات الأمنية، وحتى المدنية، فهل كانت أميركا فعلاً لا تعرف ماذا تفعل في اليوم التالي للغزو؟ أم أن كل شيء كان مخطّطاً له ليكون بهذا الشكل؟ فالعراق كان القوة العربية الوحيدة القادرة على الوقوف بوجه إسرائيل، يقول رئيس الوزراء القطري الأسبق حمد بن جاسم.