العرب وتحدّي الجيوبولتيك المتغير
تعدّ حقائق التاريخ والجغرافيا عوامل رئيسة في نفوذ أية دولة وتأثيرها، ورسم معالم استراتيجيتها التي تسعى عبرها إلى التأثير في محيطها الإقليمي والدولي، وفي تحديد موقعها ضمن موازين القوى. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن تقسيم المنطقة، في أحد أهدافه، جاء بوصفه مخطّطا من أجل تحجيم دور (ونفوذ) هذه الجغرافيا السياسية العربية في مجملها، الممتدّة من المحيط إلى الخليج، والتي تجمع شعوبَها روابط عميقة، تاريخية وثقافية ودينية، وكان يمكن لها المساهمة بشكلٍ مؤثّر في الحضارة الإنسانية، لو أتيح لشعوبها حكم ديمقراطي بعيدا عن تسلّط العسكر، مع بقائها موحّدة، ولم تقسم بشكل نتج منه نشوء مجموعة من الدول القُطرية في المشرق العربي. ولاحقا، انتقلت عدوى التقسيم إلى المغرب العربي الكبير، في دولٍ وطنيةٍ ذات مساحاتٍ جغرافية وإمكانات اقتصادية وأنظمة سياسية متفاوتة من ناحية الحجم والتأثير. وهنا نتساءل: هل نحتاج في الوطن العربي دولًا إضافية، بعد مائة عام من "سايكس بيكو"، وبعد وجود 22 دولة عربية/ قُطرية/ وطنية مستقلة؟
لقد مثّل الربيع العربي بارقة أمل لشعوب المنطقة العربية في طموحها نحو الحرّية وبناء أنظمة حكم ديمقراطية. وقد كشفت لحظة الربيع عن فشل الاستعمار القديم والحديث في جعل الشعوب تتقوقع على قضاياها القُطرية بعيدًا عن التفاعل مع القضايا الكبرى لهذه الشعوب، والشواهد عديدة على ذلك. هنا برزت استراتيجية جديدة إقليمية ودولية، مذ ما يقارب عشر سنوات تسعى إلى تفتيت الجغرافيات السياسية الكبيرة، بغرض إضعاف أدوار هذه الدول وتأثيرها في المحيطين، العربي والإقليمي، سواء أتيح لها الانتقال الديمقراطي أو استمرّت تحت حكم استبدادي، وذلك عبر أدوات عدة، منها ما يثير النزعات الإثنية والطائفية، كما يحدث في سورية والعراق واليمن لاحقا، وأخرى عبر إبراز الحساسيات المناطقية، مثلما يحدُث في كل من ليبيا والسودان، وبوتيرة أقل في الصحراء الغربية في المغرب.
ربما نشهد في مرحلة لاحقة إحياء لصراعات في عدة دول ذات جغرافيات سياسية كبيرة نشأت على أساس قبلي
اللافت تركّز هذه الصراعات في الجمهوريات وتحييد الممالك والدول المشيخية عن ذلك. وربما نشهد في مرحلة لاحقة إحياء لصراعات في عدة دول ذات جغرافيات سياسية كبيرة نشأت على أساس قبلي، ثم تحولت القبيلة إلى مملكة ودولة، وانتقل شيخ القبيلة ليكون ملكا أو رئيسا بعد توحيد هذه الدولة تحت راية واحدة، واستوعب قسرا أو طوعاً كل القبائل المتضرّرة والإمارات المندثرة من هذا التوحيد ضمن استراتيجية توزيع عادل للثروة والنفوذ والمناصب لأفرادها وشيوخها ضمن الدولة الجديدة، وقاد هذا إلى تأسيس كيان جغرافي سياسي كبير وفاعل في المشهد تعزز نفوذه مع الثروات الغنية له، والذي كان عامل استقرار واستمرار للدولة بحدودها الجغرافية السياسية (المملكة العربية السعودية مثلا)، في وسطٍ تتبدل فيه حدود الكيانات الجغرافيا السياسية العربية وكأنها على رمال متحركة.
وفق هذا المدخل، ربما نستطيع فهم النشاط السياسي للمملكة، وتأديتها أدوارا فاعلة في بلدان مهدّدة بتفتت كياناتها الجغرافية السياسية، وإصرار المملكة على وحدة الدول واستقرارها، مثل انخراطها في رعاية توافقات الهدنة والتهدئة في السودان، وكذلك استدارتها فيما يخصّ سورية وقبلها العراق، مسبوقا بانكفائها عن دعم أحد أطراف الصراع في ليبيا، إثر تهدّد كيانها بالتفتت والانقسام بين شرق وغرب. وفي هذا السياق، الاعتقاد أن صانع القرار السعودي يستقرئ المستقبل، ويشعر أنه، في لحظة ما من المستقبل، ربما يُهدّد كيانه السياسي الذي وحّده المؤسس الملك عبد العزيز من عدة إمارات كانت متناحرة ومستقلة، فيما لو ترسّخت في دول أخرى سلطات أمر واقع فوق جغرافيات سياسية عدّة نتيجة الصراعات المحلية بين أبناء تلك الجغرافيا الواحدة، والتي تنتقل بالعدوى متجاوزة الحدود السياسية، في دول مثل العراق وسورية وليبيا والسودان واليمن كذلك، وكانت المؤشّرات تتجلّى بشكل واضح مع بداية التدخّل في اليمن عن إرهاصات من هذا النوع، خصوصا في المنطقة الشرقية من المملكة.
في العراق ثلاث جغرافيات سياسية شبه مستقلة، نابعة من خلفيات إثنية قومية وطائفية
تدرك الدول ذات الجغرافيا السياسية الصغيرة أن عوامل القوة، كالمال والاقتصاد، لا تصنع منها دولا ذات نفوذ وتأثير كبير كما ترغب. ومع عدد السكان القليل، يتضاءل تأثيرها الإقليمي والدولي، فذهبت تحت رغبة النفوذ وإدراك قوة عامل الجغرافيا إلى تعزيز سلطات أمر واقع فوق جغرافيات صغيرة، عبر دعم أطراف صراع في دول عدة ذات كيان جغرافي كبير، لترسم حدودا متناحرة بين هذه السلطات التي تمتلك أذرعا عسكرية ومؤسّسات خدمية وكيانات سياسية كنموذج مصغر لدولة غير معلنة، ولكنها تدير مناطقها باستقلاليةٍ شبه كاملة عن المركز، من دون إعلان الانفصال أو الاستقلال، لأن ذلك لم ينضُج بعد محليا، إقليميا، ودولياً، مع الإشارة إلى أن قطاعات واسعة من مواطني هذه الدول أصبحت أميل إلى إعلان ذلك من منطلق أن كنّا لا نستطيع التعايش سوية، فالانفصال أو الاستقلال أفضل للجميع، وهذا تردّد كذلك لدى صانعي القرار والفاعلين المحليين في عدة دول، مثل ليبيا والعراق، ويتجلى رويداً رويداً في سورية واليمن، ولاحقا ربما في السودان، مع اختلاف محرّكات هذه الرغبة من دولة إلى أخرى. فنرى في العراق ثلاث جغرافيات سياسية شبه مستقلة، نابعة من خلفيات إثنية قومية وطائفية في شمال العراق (كردستان) وفي الوسط (بغداد وامتداداتها) والجنوب (البصرة). وفي ليبيا تتجلّى جغرافيتان سياسيتان في الشرق والغرب. وتنبع الرغبة هناك مدفوعة بعامل المناطقية بين بنغازي في الشرق وطرابلس في الغرب. وأيضا عندما تتمعّن في المشهد في سورية، تجد أربع جغرافيات سياسية تحكمها سلطات أمر واقع جلية، سلطة تترسّخ في منطقة الجزيرة السورية (شرق) محرّكها الأساسي راية القومية التي يحشُد لها حزب الاتحاد الديمقراطي (كرديًا)، بينما منطقة غرب الفرات أرياف حلب وإدلب الشمالية التي تسيطر عليها المعارضة ترفع راية "الثورة" في مواجهة الاستبداد، وصولا إلى منطقة إدلب وريفها الجنوبي التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) والتي تحشُد شارعها بـ"راية الإسلام"، الى أن نصل إلى سورية "المفيدة" التي يستند خطاب نظام الأسد فيها إلى المقاومة ثلاثية الأبعاد، مقاومة الإرهاب، الانفصال، الاحتلال، مع التأكيد أن النظام هو السبب في نشوء هذه كلها واستمرارها، خصوصا الاحتلال الإسرائيلي. دعك من كل هذه الرايات والخطابات التي يسعى كلٌّ منها إلى حشد مؤيديه إلى صفّه، فالحقيقة أن ما يحصل في هذه البلدان بين هذه السلطات صراع على السلطة من أجل الثروة، مدعوما بأطراف إقليمية لكل منها غاياتها وأهدافها.
تساؤلات جدّية عما إذا كان الصراع الدائر في السودان، وليد اللحظة، أم أنه تم تفجيره في هذا التوقيت بالذات
في السودان كذلك، بعد تشظّي كيانه السياسي، إثر ما حصل في جنوبه وفي إقليم دارفور، تبرز حاليا، ضمن الصراع بين قيادات المكوّن العسكري (الجيش وقوات الدعم السريع)، باطّراد، بذور الصراعات القبلية والمناطقية الإثنية، والتي لها جذور تاريخية، ربما ينتج منه فيما لو تفاعل ترسيخ سلطات أمر واقع بجغرافياتٍ سياسيةٍ متعدّدة ومتناحرة تهدّد هذا الكيان الجغرافي الكبير والمهم، المطلّ على البحرالأحمر الذي كان، إلى وقت قريب هادئ الأمواج، بعيدا عن القلاقل. وهنا يخطر إلى الأذهان سؤالٌ عن تعكير صفو هذا البحر المستقرّ نسبيا لحقبة تاريخية طويلة، وانفجار الوضع في هذه اللحظة التي قدّمت فيها السعودية توافقاتٍ قاسية لتهدئة جبهة اليمن مدخل البحر الأحمر والتفرغ لرؤية 2030، وفي مقدمتها مشروع نيوم الاستثماري، الفريد من نوعه على شواطئ البحر الأحمر، بوصفها بيئة استثمارية هادئة ومستقرّة، إلى أن أتى الصراع في السودان على الضفة الأخرى منه، ليضع تحدّيات حقيقية أمامه. ويطرح تساؤلاتٍ جدّية عما إذا كان هذا الصراع الدائر الذي لا ندري متى سيتوقّف، وليد اللحظة، أم أنه تم تفجيره في هذا التوقيت بالذات، لرغبةٍ في نفس جهةٍ ما، تقرأ جيداً حقائق التاريخ والجغرافيا، وتدرك أن مشروعها مهدّد، بشكل أو بآخر، فيما لو نشأ قريبا منه مشروع أضخم وأكثر نفوذًا، مستندا إلى الجغرافيا السياسية الكبيرة والمستقرّة!