العرب وجريرة التطبيع
لم يفِ القادة العرب الذين هرولوا إلى تطبيع علاقاتهم مع كيان الاحتلال الإسرائيلي بالالتزامات التي قطعوها على أنفسهم في القمّة العربية في بيروت عام 2002. وهي القمة التي اشتهرت بمبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز (إبّان كان ولياً للعهد)، واشترط في بنودها، قبل قيام أي علاقاتٍ بين العرب والكيان الصهيوني، إنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967، وعودة اللاجئين والانسحاب الكامل من الجولان السوري ومن الأراضي اللبنانية المحتلة.
لم يعر الكيان الغاصب هذه المبادرة أيّ أهمية، بل لم تساوِ لدى قادة إجرامه حتى الحبر الذي كتبت به، فالاحتلال صعّد من عدوانيته، وأطلق يده في قتل الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات وبناء أخرى، ضمن مخطّط توسّعي يهدف إلى بناء "إسرائيل الكبرى". وهو يسعى، بكل الطرق، إلى تصفية القضية الفلسطينية وينفذ مخططاً خطيراً، صاغه قبل خمس سنوات عضو الكنيست والوزير الحالي بتسلئيل سموتريتش، يقضي بضم المنطقة الواقعة بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط. ووفقا لهذا المخطط الرهيب، سيجد الفلسطينيون أنفسهم أمام خيارات ثلاثة: القبول بالعيش تحت قسوة الاحتلال أو الهجرة القسرية أو الإبادة والتصفية. ولعل ما وقع في بلدة حوارة قبل أيام، وما يجري في مخيم جنين ونابلس من اقتحامات واغتيالات وهدم للمباني ومطاردة للشبان الفلسطينيين، يؤكّد ما يبيّته الصهاينة من مكر ومؤامرات، خصوصاً بعد أن تيقنوا أنّ مشروع اختراق البلدان العربية وشقّ صفها يتقدّم حتى بغير ما كانوا يتوقعون.
والحقيقة أن العرب، الذين طبّعوا علاقاتهم مع العدو الصهيوني، لم يخذلوا الفلسطينيين وحدهم، وإنما خذلوا العروبة والإنسانية جمعاء، وقدّموا للكيان الغاصب، في ظل أزماته الخانقة، قوارب نجاة، وأطلقوا يده يبطش بها شعباً أعزل، يقاوم أبناؤه آلة الاحتلال بالصدور العارية وبالإقدام والمسارعة إلى الشهادة، ذوْداً عن الأرض والمقدّسات العربية، الإسلامية والمسيحية منها.
نجح الكيان الصهيوني في تجنيد الدول المطبّعة وجرّها إلى تكوين جبهة ضد إيران طوال العقد الأخير
والحال أنّ الدول العربية التي طبّعت وفتحت أبوابها لكيان عنصري لم تتعظ من تجارب من سبقها في هذا، فقبلهم كانت مصر والأردن. والأوْلى أن يُنظر إلى حالي هذين البلدين، وإلى ما جنياه من اتفاقيات التطبيع، فالخيبات تقاطرت على البلدين وتؤكّدها التقارير الدولية. وها هما اليوم، مصر والأردن، يرزحان تحت ثقل واقع اقتصادي واجتماعي مخيف، فلا مصر تقدّمت وازدهرت ولا الرفاه والرخاء كان من نصيب الأردن، الذي فاق دَيْنه العام حوالي 41 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة 88% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، وكذلك ديون مصر التي تشهد ارتفاعاً مهولاً، إذ قدّرت بحوالي 400 مليار دولار، أي بنسبة 89% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
تسير البلدان التي ارتمت في أحضان كيان استعماري ضد طموحات أمتها العربية في التحرر والنهضة والاستقلال. وما جريرة التطبيع التي اقترفتها هذه الدول إلا صورة رديئة عن الحال العربي الذي انحدر إلى مستوىً سحيق، فهل تدرك هذه الدول أنها تعمل ضد المصالح العربية وضد الأمن القومي العربي وضد مستقبل الأجيال القادمة؟
لقد نجح الكيان الصهيوني في تجنيد الدول المطبّعة وجرّها إلى تكوين جبهة ضد إيران طوال العقد الأخير. وإذا كانت إيران تشكل خطراً متوقعاً على العرب، فماذا يمثل كيان الاحتلال الذي يغتصب أولى القبلتين وثالث الحرمين، ويستمرّ في احتلال أراض عربية؟ إننا في زمن تتسع فيه الدهشة، وتندفع فيه الاستفهامات إزاء واقع عربي مفكّك الأوصال. فإيران التي تحوّلت، بإيحاء أميركي وصهيوني، إلى عدو، وعُلقت عليها كل المشكلات والأزمات التي تعيشها المنطقة، يجعل العرب كمن يستجير من الرمضاء بالنار، فالواضح أن الصهاينة نفد صبرهم ويستعجلون الولايات المتحدة لشنّ هجوم ضد إيران. على أن تكون الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع الاحتلال طرفا مشاركا في هذه العملية إن تمت، ستُضاف إلى لعنة العراق الذي ما زال يغرق في يم الصراعات بسبب العدوان الأميركي والدعم الرسمي العربي.
لن يغيّر التطبيع الذي استغله الكيان الصهيوني لفكّ عزلته من طبيعته الدموية والإجرامية
ما كان لدول التطبيع أن تختار هذا المسار الذي سيقحم المنطقة في مزيد من الاضطراب والفوضى والانقسام، بالمساهمة في نزع شوك كيان الاحتلال، باستعداء إيران وإعلان الحرب عليها، حتى في حالة الأخطاء القاتلة لبعض المسؤولين الإيرانيين الذين أعلنوا، مزهوين على الملأ، ضمهم خمس عواصم عربية أصبحت رهن إشارة بنانهم، وهي الهدية المجّانية التي تلقفها كيان العدو، ليضيف عليها صورة من هنا وأخرى من هناك، ليبثّ الهلع والخوف من خطر إيران الماحق على العرب.
يعالج العرب مشكلة بمعضلة أكثر منها، فالمنطقة تُركت لقوى إقليمية ثلاث، إيران، تركيا وكيان العدو المدعوم أميركياً وغربياً. ضمن هذه البيئة المعقّدة، يوجد العرب كمجموعة تفتك بها الصراعات والنزاعات التي أضرّت كثيراً بمصيرهم ومستقبلهم. فبدلاً من السعي إلى ترميم الكسور في جسد الوطن العربي وإزاحة العراقيل التي تقف في وجه بناء التفاهمات الضرورية كمخرج لمشكلات وهموم منطقة تزخر بإمكانات مادية وبشرية هامة، انسلّ بعضهم إلى الاحتماء بكيان غاصب، كنا، في الأمس القريب، نرفع في وجهه شعار "لا سلام، لا اعتراف، لا مفاوضات".
لن يغيّر التطبيع الذي استغله الكيان الصهيوني لفكّ عزلته من طبيعته الدموية والإجرامية، وما دام الفلسطينيون أصحاب الأرض والحقّ يدافعون باستماتةٍ قلّ نظيرها في تاريخ الأمم والشعوب، فإن التطبيع ساقطٌ لا محالة، وليس أمام الدول المطبّعة غير العدول عن هذه الجريمة في حقّ أنفسهم وشعوبهم وفي حقّ فلسطين، القضية الأولى للعرب والمسلمين، فهل يكون الاتفاق المعلن أخيراً بين السعودية وإيران مدخلاً لإنهاء هذه المرحلة الكالحة من تاريخ الوطن العربي، بموازاة الإعلان عن صعود الصين فاعلاً مؤثراً في صياغة القرار الاستراتيجي الدولي وبداية تراجع عصر الهيمنة الغربية على المنطقة؟