هذا التضامن الواسع مع المغاربة بعد الزلزال
ما إن تراجع قيظ الصيف في المغرب، حتى اهتزّت الأرض ورجّت رجّا عنيفا، ليتغيّر كل شيء في برهة، عصفت بطمأنينة الناس وروّعت أمنهم وخلفت وراءها هلعا واسعا، لن تندمل جراحه الغائرة إلا بعد سنوات، فقد كانت الهزّة التي ضربت منطقة الحوز، وباغتت الناس وهم نيام، قوية ومدمّرة. وكان مركزها في البرّ، ما ضاعف من قوتها وجعلها لا تبقي ولا تذر، وهو ما يفسّر هوْل الفاجعة التي أودت في حصيلة أولية بحياة أزيد من خمسة آلاف فرد، فيما حالات نحو ألفين من عدة آلاف من الجرحى والمصابين خطيرة. ولعل ما زاد من صعوبة عمل أفراد فرق الإنقاذ الذين يسابقون الزمن حدوث الهزّة الأرضية في منطقة جبلية شاهقة في سلسلة هي الأعلى في البلاد، جبال الأطلس الكبير، فالحوز من الأقاليم الشاسعة، مساحته 6612 كلم مربعا، وثمّة قرى عديدة في جبال شديدة الوعورة وذات تضاريس ملتوية، جعلت الوصول السريع إلى المنكوبين شبه مستحيل، خصوصا بعدما تدحرجت صخورٌ ضخمة فقطعت الطرق والممرّات البسيطة، لتتحوّل المهام من إسعاف العالقين تحت الأنقاض إلى فتح الطرقات وإزاحة الأحجار والأتربة التي انجرفت إلى سفوح الجبال بسبب قوة الهزّة العنيفة التي ضربت المنطقة المترامية في مرتفعات الأطلس الكبير.
فرق الإنقاذ تواجه صعوبات جمّة نتيجة التضاريس الوعرة وغياب الطرق المعبدة
وقد جعلت شساعة المجال الذي كان مسرحا للهزّة مهام الإنقاذ والإغاثة صعبة للغاية، رغم أن قوى من الجيش والدرك الملكي والوقاية المدنية هرعت إلى المكان، وجنّدت كل إمكاناتها لفك العزلة عن القرى النائية لتسريع وصول فرق البحث والإنقاذ ومختلف المساعدات الضرورية لسكّان فقدوا كل شيء، فهناك قرى سوّيت بالأرض وباتت نسيا منسيا، ولم تترك طبيعة المنطقة القروية والدور المبنية من التراب والطين فرصة لنجاة كثيرين، حيث قضى غالبية الناس اختناقا تحت الأتربة، رغم الجهود التي تبذلها فرق الإنقاذ المحلية إلى جانب فرق وفدت من عدة دول، وانضمّت لمثيلتها المغربية، وأبرزت مستوى التضامن الواسع الذي تلقّاه المغرب من أكثر من بلد، إلا أن الحرص على النجاعة، وضمانا لحسن التنظيم، جعلا المغرب يحصر فرق الإنقاذ في قطر والإمارات وإنكلترا وإسبانيا.
ورغم أن الجراح كبيرة والبلاد نكّست أعلامها ثلاثة أيام، حزنا على الضحايا بتوجيهاتٍ من الملك محمد السادس الذي أعطى توجيهات صارمة لمختلف المصالح بتسريع وتيرة التدخّل لإنقاذ العالقين تحت الأنقاض وتقديم المساعدات للذين أصبحوا بلا مأوى ولا غذاء وفتح الطرق والمسالك أمام قوافل المساعدات الآتية من كل المناطق المغربية، فإن فرق الإنقاذ تواجه صعوبات جمّة نتيجة التضاريس الوعرة وغياب الطرق المعبدة.
ولإعطاء دفعة معنوية للجهود المبذولة من الجميع، حلّ ملك البلاد محمد السادس في مراكش، وتفقد في المركز الاستشفائي في المدينة مصابين، وطاف على مجموعة منهم واطمأن على أوضاعهم، وحثّ الحكومة على وضع خطّة عاجلة لفكّ العزلة عن المنطقة وتحميل جميع المتدخلين المسؤولية عن كل إهمال أو تهاون أو إخلال بالأمانة أمام مواطنين ظلوا يئنون في صمت، حتى قبل أن تفاجئهم الهزّة العنيفة وتتركهم هائمين في العراء، وحتى لا تتكرّر مأساة الزلزال الذي ضرب إقليم الحسيمة، شمال المغرب، في 24 فبراير/ شباط 2004، حيث تعطّلت مشاريع تنموية عديدة أطلقها العاهل المغربي في المنطقة، بسبب الإهمال والفساد الذي ضيّع حقوق المنكوبين، واستدعى محاسبة مسؤولين عديدين.
عزلة المغرب المنسي أو غير النافع، كما يحلو لبعضهم تسميته، في ازدياد، تتفاقم وتتّسع
كم من مأساة غيّرت أحوال الناس إلى الأفضل، فوجود سكّان في قمم الجبال الشاهقة مجرّدين من الشروط الدنيا للعيش الآدمي الكريم مسؤولية يتحمّلها المنتخبون الذين اعتادوا توزيع الوعود وبيع الأوهام للبسطاء في أثناء الحملات الانتخابية، ثم يختفون لينشغلوا عنهم برفع ثرواتهم وتحسين أوضاعهم وأوضاع أسرهم على حساب الفئات الأشدّ فقرا في المجتمع، ومن بينهم سكّان السلاسل الجبلية التي هزّها الزلزال العنيف، فانكشفت حقيقة السياسيين والحكومات التي تعاقبت على إدارة الشأن العام منذ استقلال المغرب عام 1956، فكم هي المشاريع التنموية التي هدفت إلى فكّ العزلة عن القرى التي يقطنها ضعفاء القوم، فمنذ نالت البلاد استقلالها عن الاستعمار الفرنسي وعزلة المغرب المنسي أو غير النافع، كما يحلو لبعضهم تسميته، في ازدياد، تتفاقم وتتّسع، من دون أن يحسّ بهم من حملوا المسؤولية، ممن يتعاملون مع قضايا الناس وهمومهم أنها مجرّد مادّة انتخابية، يصعد على درجها سماسرة الانتخابات، خدمة لأغراضٍ غير مشروعة. وكم كانت كبيرة مفاجأة الإعلاميين العرب والأجانب الذين اضطرّوا إلى قطع مسافات طويلة على الأرجل حتى يتسنى لهم الوصول إلى القرى القريبة من مركز الهزّة الأرضية. فكيف يقوى الأهالي على العيش في بيئة شديدة الوعورة وكيف يستطيعون تحقيق قسط من الانسجام مع تضاريس عنيفة للغاية؟
كثيرة هي المآسي التي خلفها الزلزال العنيف الذي ضرب المنطقة. لكن المغاربة، مرّة أخرى، يتحدّون جراحهم، ويقفون كالجبل الأشم في وجه الكارثة الثقيلة. يداوون ألمهم بحركة تضامن واسعة، أعلت من شأنهم، وجعلت منهم جسدا واحدا، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى.