العودة الجزائرية وحراسة النظام العربي الرسمي
السلطات الجزائرية راغبة في العودة إلى مواقع متقدّمة على الساحات السياسية القريبة والبعيدة. عودة تتوزّع مجالاتها من الزيارات الخارجية والرياضة واستضافة قمم ومؤتمرات وتفعيل آلة الدبلوماسية الميتة منذ سنوات، وصولاً إلى الإيحاء بعدم ممانعة شنّ حروب لتحقيق المصلحة. تستقوي هذه "العودة" الجزائرية بمجموعة عوامل:
ــ استتباب حقبة ما بعد آل بوتفليقة لفائدة تحالف عسكري ــ مدني رمزه الرئيس عبد المجيد تبون، ليس على جدول أعماله التجاوب مع مستلزمات تغيير ديمقراطي عميق، وبالتالي التخلص من أعباء أي معارضة حقيقية.
ــ استغلال الظرف العالمي الذي وسّع هوامش حركة وقرار مجموعة من البلدان كالجزائر، من التي يقوم اقتصادها على الثروات الطبيعية التي ترتفع أسعارها، الغاز والنفط خصوصاً.
ــ حماسة حيال ما يظهر من ملامح نظام دولي جديد يُحكى عنه، من مظاهره الأولية إتاحة المجال أمام قوى إقليمية لتشن حروبها الصغيرة كي تصفّي خلافاتها، وهو ما كان صعباً حصوله قبل التحولات التي أضعفت القبضة الأميركية في المنطقة.
من بين مؤشّرات العودة الجزائرية، يُقرأ السعي لاحتضان النظام السوري في جامعة الدول العربية من بوابة قمة الجزائر. ومتى استحال ذلك، أمكن تعويضه بجوائز ترضية، كدعوة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد للمشاركة في احتفالات الذكرى الـ60 لعيد استقلال الجزائر. وإحياء الذكرى تلك، على ما قد يظهر كأنه أمر طبيعي، فإنما هو ملمح ثانٍ لتلك العودة الجزائرية "الهجومية"، ذلك أنه تخلل الاحتفالات يوم أمس عرض عسكري ضخم هو الأول منذ 33 سنة في هذا البلد. عرض عسكري كأنه فصل من التصعيد ضد إسبانيا والمغرب، وهو ملمحٌ رابع لهذه العودة. الحماسة في الانخراط بالملف الليبي علامة خامسة، والاهتمام المتزايد بالشأن التونسي سادس. حتى أمر أكثر من عادي مثل زيارة الرئيس للخارج، أو لمناطق ومحافظات جزائرية، صارت توصف في الإعلام المحلي بأنها ثورة مقارنة بالموت السريري للعقود الماضية. دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط في وهران، مع أنها مناسبة رياضية متواضعة، وُضعت في خانة الحدث الجلل. تأييد الجزائر ضمنياً غزو روسيا لأوكرانيا والحفاوة في استقبال سيرغي لافروف في الجزائر العاصمة، قفزة قد تكون مستعجلة في تنبؤ نهاية التفوق الأميركي في العالم.
في كل هذه العلامات على الطموح الجزائري باحتلال مكانة معتبرة عربياً وأفريقياً وفي ما يتجاوز حدود حوض البحر المتوسط، جنوبه وشماله، تغيب أي ملامح لتغيير ديمقراطي جدي داخل الجزائر. لا بل إن أحد أبرز ما يمكن ملاحظته بين خيوط هذه العودة، الرغبة في حراسة النظام الرسمي العربي وصونه من أي احتمال تغيير. من دعم النظام السوري إلى اختيار أن تكون السعودية أول محطة خارجية للرئيس عبد المجيد تبون عام 2020 ومصر ــ السيسي ثالث مقصد له مطلع العام الحالي، لا تخفي الجزائر الرسمية اشتراكها بالنظرة نفسها لبقية الأنظمة العربية حيال المحافظة على الوضع العربي القائم بعيداً عن أوجاع رأس الحريات والديمقراطية. في هذه النقطة بالذات، لا تبقى قيمة كبيرة في التمييز بين الجزائر كأكثر بلد عربي اليوم يرفع من سقف الخطاب والموقف اللفظي المؤيد للقضية الفلسطينية، وبين بقية محاور النظام الرسمي العربي من المتسابقين نحو التحالف مع إسرائيل، أو إشهار العلاقات التي لا تزال سرية معها. بين المحورين، يمكن التوقف عند تلاقي الجزائر مع الإمارات في تعويم نظام الأسد، في موازاة الاختلاف بينهما حيال القضية الفلسطينية. في الموضوع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، لا تشعر أي من القيادتين بأي حاجة لانتقاد سياسة البلد الآخر. أما في سياقات أخرى كليبيا، فلا تتردد الإمارات في رفض تعيين وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقادوم مبعوثاً أممياً إلى ليبيا.
هما محوران عربيان يختلفان على كلّ شيء، على إسرائيل وليبيا ومنطقة الصحراء، لكنّهما، بالتأكيد، يتفقان على حراسة النظام العربي، وممانعة التغيير الديمقراطي.