الفشل الإسرائيلي في خداع الصورة و"تحريك الكلب"
هي مدرسة الغرب، تحديداً الأميركيّة، التي لطالما اعتمدت تلفيق الصورة في الحروب والنزاعات، ولجأت إلى التزوير والخداع والتلاعب بالرأي العام. و"إسرائيل" تلميذة نجيبة لهذه المدرسة مع إضافات من عنديّاتها المفطورة على الكذب أداة تغطية على الجريمة المستمرّة منذ نشأة المشروع الصهيوني، أو تعمية على الفشل كما هي الحال في غزّة اليوم.
مفردة "خداع" في العنوان أعلاه واضحة المعاني، أمّا "تحريك الكلب" فيحتاج توضيحا. المقصود عنوان الفيلم الأميركيّ "واغ ذي دوغ" (حرّك الكلب) الذي يعود إنتاجه إلى 1997، من إخراج الأميركي باري ليڨنسون وتمثيل داستن هوفمان وروبرت دي نيرو. عن إمكان تعرّض رئيس للولايات المتحدة لخسارة ولايته الثانية، قبل 11 يوماً فقط من الانتخابات، بسبب فضيحة جنسية تناقلتها وسائل الإعلام، وتفيد بأنّه تحرّش بشابّة كانت تزور البيت الأبيض، فسارع فريق الرئيس إلى الاتصال بالسيّد "فيكس إت" (أصلح الأمر، في الترجمة الحرفيّة)، الذي يؤدّي دي نيرو شخصيته، كي يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويرى هذا الأخير أن الحلّ الوحيد للتغطية على هذه الفضيحة أن تدخل أميركا الحرب! أيّ حرب، غير مهمّ، فالمطلوب حرب وهمية 11 يوماً يخرج منها الرئيس بطلاً (على طريقة جورج دبليو بوش في العراق)، بينما صورة الرئيس في الفيلم هي أقرب إلى المتحرّش الفعليّ بيل كلينتون. ويقرّر السيد "فيكس إت" أنّ الحرب ستكون ضدّ ... ألبانيا! لكن لماذا ألبانيا؟ يجيب: ولماذا ليس ألبانيا؟ ماذا يعرف الأميركيون عن ألبانيا؟ لا شيء، تماماً. ولكن ماذا فعل الألبان ضدّنا؟ - يجيب: وماذا فعلوا لنا؟
يستطيع المنتج "العبقري" في فيلم "تحريك الكلب" جعل الشعب الأميركي يكره ألبانيا، ويعتقد أن ثمّة حرباً تدور بالفعل، بينما لا شيء يحدُث إلّا في الإعلام
يلجأ السيد "فيكس إت" إلى منتج هوليوودي مشهور يدعى ستانلي موتس (يؤدّيه داستن هوفمان)، الذي يشرع للتوّ في فبركة حربٍ وهمية ضدّ ألبانيا التي راح يصرخ المسؤولون فيها إنّهم لم يفعلوا شيئاً، وسط لامبالاة الأميركيين. يستطيع المنتج "العبقري" جعل الشعب الأميركي يكره ألبانيا، ويعتقد أن ثمّة حرباً تدور بالفعل، بينما لا شيء يحدُث إلّا في الإعلام ... تُفبرك حوادث وصور وهميّة في الاستديو، بحرفيّة عالية، ومنها مشهد إنقاذ فتاة ألبانية من عصابات إرهابيّة في ألبانيا، ومشهد آخر لجنديٍّ مختطَف "خلف خطوط العدو"، فتمتلئ قلوب الأميركيين كرهاً بألبانيا، ويعبّر عن ذلك مشهد جمهور مباراة كرة سلة في مدرسة ثانوية يلقي بالأحذية القديمة على أرض الملعب تعبيراً عن تعاطفه مع "الجندي المختطَف خلف خطوط العدوّ"، فضلاً عن ارتداء القمصان التي تحمل عباراتٍ كارهة للألبان، إذ يظنّ الأميركيون أنّهم ينصرون قضية حقيقية فيما يتمّ تحريكهم مثل الدمى ... يأتون بشابّة لتصوّر مشهداً في الاستديو على الخلفية الخضراء (الكروما) بكونها مُنقَذة من الإرهاب، ويأتي الرئيس الأميركيّ لاحتضانها ... أليس هو "البطل" الغازي والمنقذ في الوقت عينه؟
لكن ما قصّة "حرّك الكلب"؟ على خلفية سوداء في مستهلّ الفيلم نقرأ: لِمَ يحرّك الكلب ذيله؟ الجواب: لأنّ الكلب أذكى من ذيله، فلو كان الذيل أذكى لحرّك هو الكلب ... فَمَنْ الكلب ومَنْ الذيل؟! من هنا نفقه معنى العنوان.
العدوّ القاتل لا يُحسن "تحريك الكلب"، إنه مخرج فاشل
لا يبتكر الكيان الصهيونيّ المجرم والمحتلّ حرباً، بل يصنعها في الحقيقة والواقع إبادةً ومحرقة. بيد أنّ خداع الصورة يمارسه في اختراع الانتصارات الوهمية داخل ميدان المعركة البرّية التي يخوضها حتّى الساعة يائساً، مهزوماً، مقتولاً. العدوّ القاتل لا يُحسن "تحريك الكلب". مخرج فاشل سرعان ما تفتضح فبركاته المشهديّة: عند "فتحة نفق" يظهر جليّاً أنها أبعد ما تكون عن فتحة نفق بسبب بنيتها العموديّة. وخلف آلة تصوير مغناطيسيّ في مستشفى لا تحتمل وضع سلاح من معدن وراءها. وأمام مخزن صواريخ يحمل جنديّان (ممثلان) صاروخاً منه، فيما يحتاج نوعه ووزنه إلى ثمانية أفراد لحمله. عشرات المدنيين من أهل غزّة الذين أُرغموا على خلع ملابسهم والركوع أرضاً عراة قبل نقلهم على طريقة أوشفيتز بالشاحنات، ثم الترويج بالصورة السخيفة المخادعة، إنّما المكشوفة، أنّهم مقاتلون من "حماس" أسرى. أو الإتيان بمجنّدة لم تكن في الخدمة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول للقول إنّها أسيرة جيش الاحتلال هربت من أيدي "حماس". فضلاً عن الصورة المشهورة لغرفة في مستشفى الأطفال حيث رزنامة الجدار والحفّاضات والدرّاجة النارية ... أدلّة تافهة عن "مرور مقاتلي حماس" من هذا المكان لا تنطلي على أحد ... بما في ذلك الجمهور الإسرائيليّ نفسه!
مقابل هذه الصورة المخادعة، الزائفة والفاشلة، كانت هناك منذ بداية المواجهة البريّة من "المسافة صفر" صورة حقيقية لا مجال فيها للغشّ أو الخداع، لمقاتلي القسّام وسرايا القدس وغيرهما وهم يصطادون الآليات الإسرائيلية والجنود الراجلين (حين كانوا يجرؤون) مزوّدين بكاميرات مثبّتة فوق رؤوسهم تسجّل اللحظة كما هي تمركزاً وإطلاقاً للقذائف. النصر الإعلاميّ للقسّام بيّنٌ للعالم أجمع، وقد فاجأ وأدهشَ وحسم المقارنة. لا يحتاج صاحب القضيّة المحقّة، رغم هول الخسارة البشرية والماديّة ورغم فظاعة الجريمة والمأساة، إلى نصرٍ زائف، أو صورة مضلِّلة. لا يحتاج إلى مثل هذه الصورة سوى المحتلّ، القائم وجوداً على الباطل، وعلى سرقة الأرض والشعور الباطني بعدم الانتماء. هو يحتاج إلى "حقيقة" مصطنعة، مخترعة، تسعفه في ترويج "حقّ" لا ينعم به، ومع ذلك يفشل لدى الرأي العام العالمي الذي كشف أضاليله وفيديوهاته الكاذبة المثيرة للهزء والسخرية. العزاء الوحيد أنّ الشعوب في كلّ مكان لم يعد يخدعها "تحريك الكلب". ألم يقل الفيلسوف الفرنسيّ جان بوديار"الأشياء لا تحدُث إذا كانت غير مرئيّة".