الفلسطيني إذ يحرس حلم الأمة
يعاني الفلسطيني على أرض فلسطين اليوم معاناة شرسة، فهو يقاتل على جبهة شديدة التعقيد، لا تكاد تترك له لحظة لالتقاط أنفاسه، منذ مائة عام أو يزيد. لا تدخر سلطة الاحتلال الصهيوني أسلوباً شيطانياً إلّا وجرّبته لإبادة الوطنية الفلسطينية، والإجهاز على روح المقاومة. في ثورة أهالي صحراء فلسطين، من أبناء قبائل بئر السبع، في الأراضي التي يسميها الاحتلال النقب، اختصرت لافتة رفعها شباب وصبايا بئر السبع "هذه الأرض لا تتسع لاثنين، إما نحن أو نحن" كلّ الحكاية، خصوصاً أنّ أهالي تلك الصحراء تعرّضوا لواحدةٍ من أكثر عمليات التغييب والقهر والاقتلاع. ويكفي أن نعرف أنّ سلطات الاحتلال لا تعترف بوجود الفلسطيني في صحراء بئر السبع، ولا تريد أن ترى أحداً من أهل الأرض فيها، فهي هدمت قرية "العراقيب" الفلسطينية جنوبي فلسطين المحتلة عام 1948، نحو مائتي مرّة، وفي كلّ مرّة تقتلع جرافات الاحتلال البيوت يعود الناس لبنائها.
مقاومة أهالي صحراء فلسطين حالة مكثفة لجذوة المقاومة، في عموم فلسطين. وفي كلّ مرّة بدا للاحتلال أنّه أنهى مهمته في "أسرلة" من يطيب له أن يسمّيهم "عرب إسرائيل" نفض القوم عنهم هذا الرداء المكروه، وصرخت فلسطينيتهم بصوت جهوري لا يقبل التأويل: أنّهم جزء من الشعب الفلسطيني، وكانوا وسيظلون "عرب فلسطين". وقد أصمّت صرخاتهم آذان الصهاينة حين اتحدت كلّ فلسطين بعد العدوان أخيراً على غزّة، وعزفت شوارع اللد وبئر السبع والقدس ورام الله ونابلس والناصرة وبقية مدن الأرض المقدسة وقراها لحن المقاومة والرفض، بالوضوح ذاته، وبالقوة ذاتها.
والحقيقة أنّ مهمة الفلسطيني المقدّسة في الجنوب لا تقل أهمية عن مهمة بقية أهالي فلسطين، في كلّ بقعةٍ تعرّضت للظلم والقمع والإرهاب المنظم. وقد ملأ أبناء الأرض المقدّسة سجل الشرف بملايين من قصص الصمود والمقاومة والصبر، والانتصار أيضاً، وأنّى يتجه المرء في أنحاء هذه الأرض يرَ قصة بطولةٍ وألم، في مقارعة عدوّ متوحش فظّ، حتى بدا أنّ ثمّة قصة بطولة وصمود إنساني تحت كلّ حجرٍ في فلسطين.
بينما يتسابق بعضهم للزحف على بطونهم إرضاء للاحتلال، وطلبا لـ "التطبيع" معه، يقف الفلسطيني كالقدر في وجه المشروع الصهيوني
يقال إنّ على من يحكم العالم أن يحكم فلسطين، وعلى من يحكم فلسطين أن يحكم القدس. وبعد نحو قرن من مواجهة الزمان، لم تزل العصابات الصهيونية التي تسمّي نفسها "جيش الدفاع الإسرائيلي" تحاول احتلال فلسطين، وإخضاع القدس لسلطتها، وقتل روح المقاومة في الجسد الفلسطيني. ويكفي أن ترى الشابة منى الكرد، التي تقوم بمهمة جيش كامل في حي الشيخ جرّاح في القدس، كي تدرك أنّ حرّاس الأرض المقدّسة لم يتعبوا، ولن يلقوا سلاحهم، فهم مكلفون ليس بحماية فلسطينيتهم، بل بحراسة حلم الأمة وشرفها، لأنّ الأرض المقدّسة إن ذلّت ذلّت الأمة كلها، فهم مكلفون بمهمة جليلة، شرّفهم الله عز وجل بها، رغم الثمن الفادح الذي يدفعونه. كيف لا وهم يحمون الأرض المقدسة التي وصفها الله، سبحانه وتعالى، بهذه الصفة، إذ قال سبحانه بحق إبراهيم عليه السلام: "وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ" فهي مباركٌ فيها للبشرية. والبركة هي، كما قال علماء الأمة، هنا ثبوت الخير الإلهي فيها كقانون يبقى على مدى الأزمان؛ فما يحصل فيها ينتهي إيجابياً وينعكس خيراً على الأمة والبشريّة. ولا أدلّ على هذا مما وقع في حقب مختلفة من التاريخ مثل: بعد معركة أجنادين في فلسطين نتجت عنها معركة اليرموك على تخوم فلسطين، فتغيّر وجه التاريخ في المنطقة، وامتد شعاع الحق في ربوع الأرض. وفي حطين (في فلسطين) كان وضع الحدّ للامتداد والوجود الصليبي الغربي في الشرق الإسلامي، ورجع الصليبيون إلى بلادهم بهزيمة عسكرية. واجتاح المغول والتّتار العالم بقوة طاغية همجيّة، وبلغت المساحات التي احتلّوها في العالم الإسلامي وغيره أكثر من ثلاثين مليون كيلومتر مربع، وكادوا أن يجتاحوا كلّ أوروبا، حتى كانت معركة عين جالوت (في فلسطين) وهزم المسلمون المغول والتّتار، وأوقفوا زحفهم الذي كان ممتداً إلى كلّ العالم القديم. وأدّت هذه الهزيمة إلى تحوّلات جذريّة منها؛ إسلام قطاعات من المغول والتّتار، بل أقام المغول والتّتار ممالك إسلاميّة عظمى. وجاء نابليون بمشروعٍ يهدف إلى احتلال الشرق الإسلامي، فاجتاح مصر وأخضعها ثمّ اجتاح فلسطين التي عجز أن يستمر فيها نحو ثلاثة أشهر، وكانت هزيمته منكرة، أدّت إلى إخفاق مشروعه في المنطقة، بعدما تحطّمت أحلامه على أسوار عكا.
لم تزل فلسطين وقضيتها تقوم بدورها في إيقاظ شعوب العرب والمسلمين
وفي أيامنا هذه، حيث يتسابق بعضهم للزحف على بطونهم إرضاء للاحتلال، وطلبا لـ "التطبيع" معه، يقف الفلسطيني كالقدر في وجه المشروع الصهيوني، ولا يتردّد في إقلاق "راحته" وقصف مستعمراته بما أوتي من علم وإمكانات بسيطة، بصواريخ تنتجها ورشات الحدادة التي يسخر منها بعضهم، رغم أنّها أقامت نوعاً من توازن الرعب، والردع الجديد الذي أخذ طريقة إلى التدريس في الكليات العسكرية!
لم يزل التحدّي قائماً. وأيدي الحرّاس على الزناد، ولم تزل فلسطين وقضيتها تقوم بدورها في إيقاظ شعوب العرب والمسلمين. وهي تشكّل حاجزاً نفسياً بين العرب والمسلمين وبين الغرب، منع ذوبان المسلمين، في وقت كانوا في حالة من التخلف يسهل عندها ذوبانهم، في حضارة الغرب القوي الغني ومالك العلم والتكنولوجيا المتقدمة. ولا تزال القضيّة الفلسطينيّة تفعل وتغيّر وتثوّر في عالم الفكر والواقع، ما سيؤدّي إلى نهايات تتجلّى للناس فيها حقيقة بركة فلسطين كوظيفة أرادها الله لها من أجل البشريّة، ففلسطين أرض مقدّسة، والقدس هو الطّهر، والمقدّسة أي المطهّرة. والقدسيّة وظيفة لها؛ فهي أرضٌ لا يُعمّر فيها ظالم، وكلّما داهمها دنس يتمّ تطهيرها. هي أرضٌ لا يتجذّر فيها باطل، فكيف بها وقد اجتمعت فيها البركة والقدسيّة، والشعب الشجاع المرابط؟