القاطرجي... مآل رجال أعمال الأسد
يستدعي مقتل محمد براء القاطرجي تاريخ تعامل نظام الأسد مع رجال الأعمال المحليين، والملابسات التاريخية التي رافقت صعود أصحاب رؤوس الأموال المرتبطين مباشرة بالسلطة، بعد أن حلّوا محلّ البورجوازية التقليدية، التي جرى تجريفها بانتظام منذ وصول حزب البعث إلى الحكم، وقد شكّل منعطف انقلاب 16 نوفمبر عام 1970، ووصول "البعث"، بنسخته الأسدية، إلى السلطة، مناسبةً لإنتاج اقتصاديين جدد، كان عامل القرابة معياراً حاسماً في إيجادهم. ويمكن أن يمثل آل مخلوف نموذجاً لهذا الحال، حيث لم يتمتّعوا بخلفية صناعية أو تجارية كافية تؤهلهم لذاك الصعود المالي الاستثنائي. وقد عُرفت عائلة مخلوف بوجودها في أعلى سلم الاقتصاديين خلال عهدي الأب والابن. ولئن كان عملها شبه مستور خلال عهد الأب، فقد ظهرت إلى العلن في فترة الابن، وقد ساعدت ظروف الثورة السورية ببروزها بشكل أوضح، بعد أن دعاها بشار الأسد إلى المساهمة في القمع المنظّم وتمويل عمليات الهجوم على الثائرين. وبعد مرور بعض الوقت على الثورة، غيّر النظام في وجوه الطبقة المالية المحيطة به، ولم تعُد القرابة العامل الأهم، فقد قرّب شخصيات أخرى خضعت لسلسلةٍ من الاختبارات، وأثبتت بالفعل إخلاصها غير المحدود له، وكان واحداً منها القاطرجي الذي أُدرج اسمه على قوائم العقوبات الدولية ليلقى حتفه قبل أيام.
منذ وصوله إلى السلطة، وضع الأسد الابن الأيديولوجيا خلف ظهره، وتنكّر لمبادئ حزب البعث الذي يترأسّه، والذي يعطي أولوية للدولة لتدير كل شيء، عندما تبنّى تشكيلة مختارة من رجال الأعمال، وزّعها على مختلف قطاعات العمل من دون استثناء، من تقديم الخدمات البسيطة إلى الصناعات الخفيفة إلى إدارة قطاع الاتصالات ذي المردود الربحي الكبير والسريع. وعلى مدى العشر سنوات الأولى من حكمه، جرى تسمين هذه الطبقة، وراكمت ثروة كبيرة، ترافقت مع تدهور الاقتصاد السوري الذي كان أحد عوامل الانتفاض الشعبي عليه، بحسب اعترافه قبل أشهر أمام أعضاء حزب البعث. وتردّدت أسماء الاقتصاديين حلفاء النظام بقوة في الشارع، وتقاسمت علناً مجالات العمل في السوق السورية. حقّقت توليفة النظام الاقتصادية تناغماً، واستطاع الإبقاء عليها تحت سيطرته بشكل عام. ولم تُظهر مفاصل الدولة الرسمية أو مرجعيات الحزب التقليدية أي امتعاضٍ أو اعتراض، وقد وُزِّعَت بعض جوائز الترضية عليها أو على الجيل الثاني من أبنائها، فجرت الإحاطة بالاقتصاد السوري وطوِّق بحزمة برجوازية مختلقة تأتمر بأمر السلطة الرسمية، في حين أن عوائدها تصبّ في جيوب القلة.
وقف رجال أعمال الأسد بإخلاصٍ نادرٍ بجانبه خلال حربه على الشعب السوري، رغم أنه نكّل ببعضهم، كقريبه رامي مخلوف الذي خلعه عن عرشِه الاقتصادي الكبير، وأدخل زوجته أسماء بمسمّيات عدة بدلاً منه. لم يبدُ أن بنيانه المالي الشخصي قد انهار نتيجة هذا التغيير، رغم محاولات رامي الاستجدائية التي ذهبت كلها أدراج الرياح. ولكن ظروف الحصار التي نتجت من الحرب أنتجت نوعاً آخر من السلوك الاقتصادي، فغيَّر كثيرون من رجال الأعمال أنشطتهم التجارية والاقتصادية، ليصبحوا رجال مليشيات بالدرجة الأولى، وأسّسوا المجموعات العسكرية التي وقفت إلى جانب النظام. وسرعان ما تحوّلت إلى عمالةٍ يدويةٍ تنتج الحبوب المخدّرة بكمياتٍ هائلة، أو تساهم في توزيعها على دول الجوار والدول البعيدة عبر البحر، وقد ألقي القبض على عشرات الشحنات العابرة للحدود البرّية أو في الموانئ العالمية.
ضمّت قوائم العقوبات الدولية كل هؤلاء، فضلاً عن رئيسهم بشّار الأسد، ومعظمهم غير قادر على مغادرة سورية، وساهمت العقوبات في الانخراط أكثر بالأنشطة المحرّمة دولياً. ويوحي مقتل القاطرجي على الحدود السورية اللبنانية بتورّطه بشكلٍ عميق مع حزب الله، سواء في تهريب الأسلحة أو الحبوب المخدّرة، والمؤكّد أن القاطرجي ليس الوحيد، وقد تَظهر قريباً اغتيالات تالية لمتورّطين واحداً بعد آخر...