القدس أيضاً وأيضاً
وكالات الأنباء العالمية بخيلةٌ في تطيير أخبار عن موقف الإدارة الأميركية بشأن الوقائع المتتالية منذ أزيد من عشرة أيام في القدس. والسبب ببساطة أنها إدارة بكماء، في هذا الأمر. ولمّا نقلت إلينا الوكالات ما نقلت من الخارجية عن مكالماتٍ أجراها الوزير بلينكن (أو تلقّاها؟) مع الرئيس محمود عبّاس ووزيري الخارجية، الأردني أيمن الصفدي والإسرائيلي يئير لبيد، بان لنا أن التباخل في إعلان مواقف أميركية واضحة لم يخدِش حرص الولايات المتحدة على إسناد إسرائيل، بل وأيضا على تظهير دعم لها، وإنْ مع العاديّ التقليديّ من الكلام الأميركي إياه، عن "أهمية الحفاظ على الوضع التاريخي القائم في القدس"، على ما سمع الصفدي هاتفيا. وهذا كلامٌ لا يقول شيئا، وللفرق بين الكلام والقول تفصيلٌ مقامُه في موضعٍ آخر. .. ثمّة عنفٌ في القدس، يحثّ الوزير الأميركي، الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، على إنهائه، وعلى "ضبط النفس"، و"الامتناع عن أي عملٍ أو تصريحٍ يؤدّي إلى تصعيد التوتر". هنا موجز المشهد، في المنظور المتوطّن في عقول صانعي القرار في الإدارة الأميركية هذه، كما في إداراتٍ سابقة. وعندما يتحدّث بلينكن مع عبّاس، يجدّد له التزام الولايات المتحدة "تحسين نوعية حياة الشعب الفلسطيني". وعندما يتحدّث إلى لبيد، يجدّد له دعم الولايات المتحدة أمن إسرائيل، ويدين الهجمات الصاروخية أخيرا من غزّة. ويكلّم الاثنين أيضا مشدّدا على "إيجاد حلّ تفاوضي يُفضي إلى دولتين".
تمتنع واشنطن عن رؤية الاعتداءات والاقتحامات اليومية التي يرتكبها مستوطنون إسرائيليون متعصّبون، متطرّفون، في باحة المسجد الأقصى، وتتعامى عن اعتقالاتٍ متواترةٍ تقترفها سلطات الاحتلال بحقّ فلسطينيين هناك، ولا تنتبه إلى بدعة المحتلّين تحديد أعداد المصلّين المسيحيين في كنيسة القيامة في القدس يوم سبت النور، كما بشأن أعداد المصلّين المسلمين في المسجد الأقصى يوم الجمعة. ولا يرى المسؤولون الأميركيون الوجود العسكري بالغ الفظاظة لقوات الشرطة الإسرائيلية في الأماكن المقدّسة ومحيطها وجوارها. ولا يقرأون لمعلقين إسرائيليين، في "يديعوت أحرونوت" وغيرها، عن قلّة إدراك "مشعلي الثقاب" في إسرائيل معنى المساس بالمقدّسات الإسلامية والمسيحية في القدس. ولكن المسؤولين الأميركيين، في الوقت نفسه، شغوفون بالحركة التي توحي بجهودِ عمليةٍ دبلوماسيةٍ جارية، فتبعث مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، يائيل لامبرت، إلى المنطقة، ثم يستقبلها في رام الله محمود عبّاس (ومعها نائب مساعد وزير الخارجية هادي عمرو)، ويطلب "تدخلا أميركيا عاجلا" لوقف إجراءات إسرائيل في القدس. ويحدّث ضيفته عن ضرورة تحمّل واشنطن مسؤوليتها "نظرا إلى خطورة الأوضاع"، والأهم أنه يبلغها بأنه أمام عدم وجود أفقٍ سياسي، ورفضٍ إسرائيلي لوقف الأعمال أحادية الجانب، والالتزام بالاتفاقيات الموقّعة، ستكون القيادة الفلسطينية أمام استحقاق تنفيذ قرارات المجلس المركزي في القريب العاجل "بشأن تعليق الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني معها".
الكلام أعلاه، على طوله، يخلو من الجدّة، لفرط تقليديّته، وتقادم مضامينه، فالولايات المتحدة معنيةٌ بألّا تتجدّد مواجهاتٌ مسلحة في فلسطين، غير أنها لا تصطفّ إلا مع الجانب الإسرائيلي. وهي حولاء عندما ترى الفلسطينيين مطالَبين بالعمل على إنهاء عنفٍ في القدس، وحولاء أيضا عندما تفترض في قيادة محمود عبّاس أهليةً لوقف عنفٍ كهذا، غير أنها، على الأرجح، لا تأخذ على محمل الجدّ أي كلامٍ فلسطينيٍّ عن "تعليق" الاعتراف بإسرائيل ووقف تنسيقٍ أمنيٍّ معها. ببساطةٍ، لأن الأرشيف مثقلٌ بشواهد بلا عددٍ تؤشّر إلى ما ينعت الوعيد الذي أفضى به الرئيس عبّاس قدّام الموفدة الأميركية (على ذمّة وكالة الأنباء الفلسطينية) بأنه محض نكتةٍ خائبة. وعندما تتجرّأ الخارجية الإسرائيلية، ومعها بعض الصحافة العبرية، على الحكومة الأردنية، رفضا لتصريحاتٍ غاضبةٍ في عمّان من الاعتداءات الإسرائيلية في القدس، وعندما لا تتوقف هذه الاعتداءات، وتصبح روتينيةً يومية، وعندما يظلّ المشهد في باحات الأقصى، وبشأن القيود على المصلّين المسيحيين والمسلمين، على حاله بعد الذي نطقه بلينكن، في مكالماتٍ عربيةٍ معه، فذلكم كله وغيره لا يعني سوى تأكيد البديهي المعلوم .. لن يُحرز الاحتلال أمنا في القدس.