الكُرد والعرب لن يتقاتلوا في سورية
يبدو أن صراعا ما طفح على السطح بين مراكز القوى في الفترة الماضية في دير الزور في سورية، وأهمها قضية الخلاف بين أحمد حميد الخبيل، الملقب أبو خولة، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد). ذلك أمر يخصّ الشأن العسكري، وطريقة تفاهم الجانبين واتفاقهما، وطبيعة التعامل والقصاص العسكري، ما دامت الجهة التي يتم الحديث عنها شريحة عسكرية ضمن جسم عسكري أوسع، لا يجوز جرّ القواعد الاجتماعية إليه. سبق ذلك رفض المجتمع المحلي في دير الزور سلوكيات المجلس العسكري، ورفض طريقة الإدارة الذاتية أيضاً في إدارة البلاد، والتي يقول أهالي دير الزور إنهم غير ممثلين بالشكل الذي هم يطلبونه. رافقت ذلك تشنّجات وتظاهرات رافضة سياسات "مجلس دير الزور المدني"، الجسم العربي ضمن "الإدارة الذاتية" والمحسوب عليها أصلاً، والحديث عن "هضم" حقوق المكوّن العربي ضمن "قسد" والإدارة. ليتطوّر الأمر مع نداءات مجموعات عسكرية تابعة لمجلس دير الزور العسكري، أو "غروبات" عسكرية تقول إن ما جرى صراع كُردي عربي! وتحميل الكُرد وزر مشكلتهم. لكن كيف وغالبية شباب دير الزور جزء من "قسد"؟
تتحوّل القضية إلى شأن ورأي عام، خصوصا مع التداخل الجغرافي والتاريخي لمكوّنات المنطقة، وتجاور الكُرد والعرب في عموم شمال سورية وشرقها، وتلك النداءات للصراع العرقي ستجرّ كامل المنطقة إلى أصعب وأسوأ مرحلة في تاريخ سورية منذ بدايات الاستقلال؛ فالعشائر العربية والكردية منتشرة على طول البلاد ومتجاورة في الريف والمدينة. ومع الانحياز التام للحق والمطالب الشعبية المُحقة دوماً وأبداً، إلا أن ما يحصل حالياً من التأجيج والسعي الحثيث لجرّ المنطقة صوب القتال العربي - الكردي، شكّل قناعة وفهما جديدين لدى القواعد الاجتماعية، عن طبيعة العلاقة بين التشكيلات العسكرية المكونة "قسد"، وحجم الغبن الحاصل والكارثة التي يتم العمل للانجرار إليها. وترويج ذلك الصراع يُزيد من دائرة إدانة قسم من مجلس دير الزور العسكري، خصوصا أن من المتوقع إماطة اللثام عن الفساد الاقتصادي والممارسات غير القانونية، للمعتقلين؛ للاستثمار فيها والحصول على مزيد من تأليب الناس ضدهم، وستستفيد "قسد" منها، خصوصا في ظل تعدّد مراكز القوى وتعدّد الفصائل والجهات المسلحة ونزاعاتها المتواصلة.
دخلت فئات مسلحة من بعض العشائر على خط الأزمة، ومعروفٌ أن الغالبية العظمى من العشائر العربية في شرق الفرات مُنقسمة الانتماء ومتعدّدة الولاءات
ما يهم والخطر المُحدق بشكل مُلح هو ما تطبخه أطرافٌ عديدة تجد في أيّ نزاعٍ محلي داخلي فرصة سانحة لها؛ لفرض سياساتها أو انتشارها. لكن ما سيساهم في عدّم تطور الأوضاع أكثر أربعة عوامل مُركبة. أولها: الاتفاق على أن مطالب المجتمع المحلي في دير الزور مُحقة، بعيداً عن لغة السلاح والتهديد، ما دامت تتعلق بسبل العيش والشراكة في إدارة البلاد ومواردها والاستقرار، ووجب الوقوف على "تنفيذها". ثانيها: تتقاطع رغبة العُقلاء والوعيٌ الشعبي بعدم الانجرار صوب هذه الفتن والصراعات، خصوصا في ظل الفقر والعوز والجوع الذي يجتاح المنطقة برمتها، إضافة إلى هجرة مئات الآلاف من الشباب من مختلف الانتماءات، والتي تلعب دورا مهما في إشاعة سلوكيات رافضة لمزيد من الأحزان والأوجاع، إضافة إلى الرهان على دور شيوخ دير الزور ووجهائها وتكنوقراطييها في وأد هذه الفتنة في مهدها. ثالثها: لن يكون في مصلحة قوات التحالف الدولي أيُّ نزاعٍ عرقي يقوّض مشاريعها في منع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من العودة والاستفادة من التوترات، أو المزيد من تمدّد مختلف الجهات العسكرية المناهضة لها، وهو ما بدا واضحاً عبر بيانها عن الأحداث وتركيزها حول العمل مع "قوات الدفاع السورية" لضمان هزيمة "داعش"، وأن الانحرافات عن هذا العمل يؤدّي إلى عدم الاستقرار وخطورة عودة ظهور "داعش". داعياً إلى توقّف العنف. والمعروف أن "قسد - مجلس دير الزور العسكري" جزء مما سماه بيان التحالف "قوات الدفاع السورية"، ورُبما تكون رسالة ترضية إلى تركيا، أنها لن تقف مع طرفٍ ضد الآخر، وأن ما يهمها دحر "داعش"، ومنع عودة القوات الحكومية السورية إلى تلك المناطق. رابعها: سلوك قيادة مجلس دير الزور العسكري قبل حادثة اعتقاله وبعدها ساهم في فضح المستور. حيث يؤكّد عديدون من نشطاء الرأي والأهالي على رفض السلوكيات والممارسات من قادة المجلس، وتحمل ذاكرتهم انطباعات سيئة عن فترة حكمهم.
يُمكن للعدالة الانتقالية أن تلعب دوراً مهماً في إحقاق الحقّ لأصحابه ومحاسبة الجناة بشكل قانوني بعيداً عن التصفيات أو الانتقامات
حالياً، دخلت فئات مسلحة من بعض العشائر على خط الأزمة، ومعروفٌ أن الغالبية العظمى من العشائر العربية في شرق الفرات مُنقسمة الانتماء ومتعدّدة الولاءات. ومن السهل جداً رؤية أكثر من توجه ضمن العشيرة نفسها، ما بين المؤيدة والرافضة "قسد"، المعارضة السورية وتركيا، الحكومة السورية... إلخ. لذلك من المنطقي أن تشهد دير الزور انقساما ما بين قبول أو رفض قسم من شيوخ العشائر وأنصارها طريقة إدارة البلاد وتهميشهم، ورفضهم طبيعة حياتهم وعيشهم؛ نتيجة طبيعية لتشعب توجّهات الشخصيات المفتاحية والشيوخ ضمن العشيرة نفسها. وبين موقف النُخب الثقافية العربية التي انقسمت أيضاً، منها ما يرى أن ظلما وحيفا وقعا على الأهالي، وآن أوان التغيير، من دون الحديث عن نوع الصراع القومي وطبيعته، ومنهم من رفض هذا الشكل من استرداد الحقوق أو المطالبة به أو آلية التواصل. مع ملاحظة عمق إشكالية الموقف من "الإدارة الذاتية"، فهي إما يتم شمول كُل الكُرد بأيّ فعل للإدارة الذاتية، أو يتم تبرئة المكوّن العربي ضمنها من تلك الممارسات، وهذه أُحجيةٌ لم تتفكّك بعد، فليس كُل الكُرد جزءا من الإدارة الذاتية أو يقبلون ممارساتها، وليس كُل العرب خارج تلك الممارسات والتصرّفات والسُلطة. من حق أهالي دير الزور المطالبة بما يرونه مُناسباً لإدارة مناطقهم، لكن موقف نُخبها يُفضي إلى واحدة من حالتين: عجزهم عن تأديتهم دورهم وسط كتلة من المشكلات والتهميش والملاحقات التي عانوا منها، وأساساً المثقف الذي لا يقوم بواجبه في أزماتٍ كهذه، خصوصا من هم خارج دائرة الخطر، هي أزمة فكرية وثقافية أعمق من المشكلة نفسها. أو عدم اهتمامهم بما يجري، رُبما خوفاً من القادم، أو رفضاً لطرفي الصراع.
رُبما يكون الحلّ في فعلٍ مُركّب، إحداث التغييرات على مستوى المطالب الشعبية، والقصاص من كُل من يُثبت تورّطه وتعامله مع "داعش"، ورفض صارم وواضح لأي دعواتٍ من شأنها تأجيج النزاعات المحلية. وأخطر ما يُهدّد الأمن والسلم المجتمعي أن شرائح وفئات عمرية كالشباب والمراهقين من السهل الاستثمار فيهم. وهذا بدا واضحاً عبر مقاطع الفيديو المنتشرة، والتي تُهدّد وتتوعد الكُرد بالقصاص، حيث غالبيتهم من الفئات العمرية الفتية. والمطلوب اليوم منا جميعاً، هيئاتٍ وأحزابا، مُنظمات ومنصات إعلامية وشخصيات اجتماعية فاعلة، كُتّاباً ومشتغلين في الشأن العام، ترسيخ الحوار الكردي العربي، وإبعاد الأفكار والقوالب الجاهزة، ومزيد من تمتين التواصل وحماية الجدار الفاصل الحامي من أيَّ اشتباكٍ عِرقي أو أثني. ويُمكن للعدالة الانتقالية أن تلعب دوراً مهماً في إحقاق الحقّ لأصحابه ومحاسبة الجناة بشكل قانوني بعيداً عن التصفيات أو الانتقامات. وكما لم يحمّل الكُرد في سورية وزر سلسلة المظالم التي لحقت بهم جرّاء القرارات والمراسيم والتمييز الذي تعرّضوا له على الهويّة، لأيَّ مكوّن سوري، وخصوصا القواعد الاجتماعية العربية في سورية، فإن لا أحد يحقّ له جرّ الكُرد إلى ساحات المواجهة بسبب قضايا عسكرية أو مدنية تخصّ هياكل الحكم وخلافاتها البينية، أو حماية المجرمين أيًّا كانت توجّهاتهم، وتأكيد أن الكُرد والعرب لن يتقاتلوا أبداً، إرضاءً للسياسيين أو أيَّ جهة كانت.