اللغة ليست بريستيجاً اجتماعياً
قرأتُ منشورا تتحدّث فيه صاحبته المصرية عن ظاهرة استبدال اللغة العربية بالإنكليزية، في كل شيء تقريبا، بدءا من قوائم الطعام في المطاعم وانتهاء بتأنيب الطفل من والديه. وهذه ظاهرة لفتت نظري مرارا، إذ تكاد تعتقد أن الإنكليزية لغة ثانية في مصر لفرط استخدامها، مع أن عشرات الملايين من المصريين لا يعرفون منها إلا بضع مفردات عامة، أو بضع جمل لازمة في التعامل مع السيّاح، باعتبار أن تاريخ مصر مع السياحة قديم وعريق.
حين بدأتُ أتعرّف في مصر إلى أوساط مغايرة لأوساط المثقفين والكتاب، اكتشفت شرائح اجتماعية تتعامل مع الإنكليزية بوصفها لغة طبقية تمييزية، أصحابها يتكلمونها لأنها تدلّ على أنهم حصلوا على تعليم في مدارس وجامعات خاصة، لا في الحكومية، (مع أن سمعة جامعة القاهرة بالنسبة لنا، أبناء بلاد الشام، كانت باهرة، وعندما نسمع عن خرّيج من جامعة القاهرة نشعر بالثقة بما يحمله من العلم والمعرفة)، فاللغة تمكّنهم من التمايز عن الطبقات الأخرى التي لا تتيح لها ظروفها المعيشية الحصول على تعليم خارج التعليم الحكومي. حصل هذا في سورية أيضا مع بدايات القرن الحالي، حين فتح نظام الأسد باب الاستثمار لتبييض ما تم نهبه من أموال الخزينة السورية في زمن والده، وانتشرت المدارس والجامعات الخاصة الباهظة التكاليف، تلك التي عزّزت الفوارق الطبقية بين شرائح المجتمع السوري.
ذات يوم، سألت صديقا مصريا يستخدم اللغة الإنكليزية في أكثر من نصف كلامه، مع أنه لا يتقن لفظ كثير من أحرفها بشكل صحيح، قال لي بما معناه: "يمكن عقدة النقص اللي عندي عشان تعلمت تعليم حكومي، فقرّرت أتعلم شوية لغة أعوض النقص ده". كان صادقا جدا في ردّه، ونبهني إلى أن كثيرا من استخدامنا لغات أخرى في كلامنا اليومي هو فعلا ناتجٌ عن عقدة النقص تجاه من نظنّهم متفوّقين علينا من أبناء بلادنا، أو تجاه الغرب/ الأبيض/ المستعمر، أو لنقل تجاه كل من يتعامل معنا باستعلاء، شيء يشبه متلازمة استوكهولم، لكن في اللغة والمنطوق اليومي، مع أن اللغة هي أداة تفكير، قبل ان تكون نطقا. أنا أفكر باللغة العربية التي نشأت عليها، وأعبر عن أفكاري لأشخاصٍ من بيئتي ذاتها، ما هو الهدف من أن أنقل إليهم أفكاري بلغة أخرى؟
يعيش في بلادنا العربية غربيون كثيرون، بعضهم يتعلمون اللغة العربية، ويتكلمون بها مكسّرة من دون حرج، ويفضلون أن نتكلم معهم بها ليتقنوها. لكننا لا نفعل هذا، بل نكافئهم على ما نظنّه تواضعا منهم أنهم يتكلّمون بلغتنا، ونتحدّث معهم بلغتهم الأصلية في قلب بلادنا العربية، وكأننا وجدنا الفرصة للتباهي أمامهم أننا لسنا متخلّفين، أو فرصة للتشبّه بهم أمامهم، بينما لا ننتبه إلى سعادتهم لإتقانهم اللغة العربية وتمكّنهم منها، هم يتصرّفون بطبيعية: يعيشون في بلاد عربية، فيجب عليهم تعلم اللغة العربية التي يحكي بها عموم الناس. هذا سلوكٌ عاديٌّ وطبيعي، لا شيء فيه يستدعي الدهشة والإعجاب، بيد أن فقرنا الإنساني يجعلنا نظنّ أنهم يتكلّمون لغتنا، لأننا متخلفون ولا نعرف لغةً أخرى، بينما هم يتكلّمونها، لأن هذا هو السلوك الطبيعي لمن يعيش في بلادٍ لغتها مختلفة عن لغته الأصلية.
كنت أتحدّث مع صديقة سورية على الهاتف، ولفظت اسم مدينة أوروبية بلكنتي العربية، فقطعت حديثي لتصحّح لي اللفظ، وأردفت: "أنت كاتبة ومثقفة، لا يجوز أن تلفظي لفظا خاطئا". كان يمكن لي أن أمرّر الأمر، لولا أن حديثها أشار إلى نقطة هامة: هل يمكن أن يقال لأي كاتب أميركي مثلا يلفظ حرفا عربيا بلكنته الأميركية أن هذا لا يجوز لأنه كاتبٌ ومثقف، وعليه أن يتقن أحرف اللغة العربية تماما؟ لن يحصل شيء كهذا حتما، هذا شيءٌ يختصّ بشعوبنا فقط، الشعوب التي عانت طويلا من الاستعمار والاضطهاد والفقر والاستعلاء، فصارت تحاول التشبّه بشعوب المجتمعات المتقدّمة، لا عبر تطوير المدارك والشغل الشخصي والعام على نواقصنا وخساراتنا، بل عبر التنكّر لثقافتنا ولأصولنا ومحاولة التبرؤ منها، عبر استعارة لغة العالم الأول، مع أن اللغة هي وسيلة تواصل فقط وليست "بريستيجا" اجتماعيا كما نظنّها.