المأزق الإسرائيلي وبداية مرحلة الأفول
يبدو أن صورة إسرائيل الوردية لدى الرأي العام العالمي، والتي بذلت الحركة الصهيونية على مدى سنوات طويلة، جهودا مضنية لتثبيتها في الأذهان، بدأت تهتز بشدة في الآونة الأخيرة. ومعروف أن هذه الصورة انطوت تاريخيا على مكونين رئيسيين:
الأول: مادّي، سعى إلى إظهارها ليس فقط دولة ديمقراطية وسط محيط من الاستبداد العربي، ولكن أيضا دولة قادرة على تحقيق إنجازات مبهرة، تكاد تصل إلى حد الإعجاز. وذلك على الرغم من صغر حجمها، ومحدودية ثرواتها الطبيعية، ووجودها وسط محيط شاسع من دول عربية متخلفة وعاجزة. لذا، عادة ما كان يحلو لبنيامين نتنياهو تشبيه إسرائيل، في مجتمع الدول، ببيل غيتس في عالم البشر. وكثيرا ما ردد أن بيل غيتس استطاع، بذكائه وعبقريته الفردية، أن يصبح من أغنى الرجال وأقواهم في العالم. ومن ثم، لا شيء يحول دون أن تتمكن إسرائيل، بقدرة شعبها اليهودي المختار، على الإبداع في مختلف المجالات، أن تصبح من أغنى الدول وأقواها.
والآخر: معنوي، سعى إلى إظهارها، ليس فقط معجزة إلهية خرجت من بين ركام الاضطهاد والإبادة الجماعية التي تعرّض لها يهود العالم، ولكن أيضا دولة معاصرة متحضّرة ومتفوقة أخلاقيا وقيميا. فقد رأينا، على سبيل المثال، كيف انتفضت إسرائيل، حين اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة، قرارا يساوي بين الصهيونية والعنصرية (القرار 3379 لعام 1975)، ولم يهدأ لها بال إلا بعد أن تمكّنت عام 1991 من محوه وإلغائه، بعد أن ندّدت به وصوّرته فضيحة عالمية وعارا على المجتمع الدولي.
وصل الغرور بحكام إسرائيل المعاصرين إلى الحد الذي دفع نتنياهو إلى تحدّي رئيس الولايات المتحدة نفسه في داره، حين ألقى خطابا في الكونغرس هاجم فيه أوباما
حققت إسرائيل بالفعل إنجازات كثيرة ومذهلة في مختلف المجالات، وفي فترة تعد وجيزة نسبيا في عمر الشعوب، غير أن قادة الحركة الصهيونية يتعمّدون تجاهل حقيقة أساسية، أن إسرائيل هي نتاج مشروع استعماري استيطاني، صمّم أساسا لتفتيت العالم العربي، تبنّته القوى المهيمنة على النظام العالمي في مراحل تطوره المختلفة. وبالتالي، الفضل فيما استطاعت إسرائيل تحقيقه من إنجازات على الأرض يجب أن يُنسب، أولا وأخيرا، إلى رعاة هذا المشروع، وتحديدا إلى بريطانيا، باعتبارها القوة المهيمنة على النظام العالمي في مرحلة ما بين الحربين، والولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها القوة المهيمنة على هذا النظام منذ الحرب العالمية الثانية، والتي ما تزال تمد إسرائيل بكل أسباب الوجود ومقوّماته. ومع ذلك، يبدو أن الغرور المتأصل في تلافيف العقل الصهيوني، والذي تنامى بسرعة مذهلة عقب حرب 1967، راح يصوّر لقادة إسرائيل أن العبقرية اليهودية وراء كل ما تحقق من إنجازات، وإليها وحدها يجب أن ينسب الفضل المستحق. بل وصل هذا الغرور بحكام إسرائيل المعاصرين إلى الحد الذي دفع نتنياهو إلى تحدّي رئيس الولايات المتحدة نفسه في داره، حين ألقى خطابا في الكونغرس هاجم فيه أوباما، وحذّره من مغبة الإقدام على إبرام اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي. ولم يكن لهذا التصرّف الغريب سوى معنى واحد، أن الإدراك الإسرائيلي للمدى الذي وصلت إليه قدراتها بات يؤهلها للتضحية بكل شيء آخر، بما في ذلك القيم الأخلاقية والأعراف الدبلوماسية.
حدثان وقعا خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية يؤكّدان أن الهالة الأسطورية التي كانت تحيط بإسرائيل قد سقطت إلى الأبد، وأن إدراك العالم حقيقة إسرائيل، كيانا هزيلا يفتقد ليس فقط إلى أدنى المقومات الأخلاقية والحضارية، ولكنه كيان قابل للهزيمة أيضا، وهو ما يدعونا إلى الاعتقاد أن زمن الغرور الإسرائيلي قد ولّى، وأن إحساس إسرائيل بالتفوق والامتلاء لم يعد له ما يبرّره: الأول: جسّده صاروخ انطلق من الأراضي السورية يوم 22 الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، وراح يواصل طريقه من دون اعتراض لمسافة 300 كم تقريبا داخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، قبل أن يسقط بالقرب من مفاعل ديمونة النووي، أكثر مواقع الأمن الإسرائيلي حساسية. الثاني: جسّده التقرير السنوي الصادر أخيرا عن "هيومن رايتس ووتش"، وهو يكشف بالوثائق عن قيام الكيان الصهيوني بممارسات عنصرية عديدة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، أي عن مظاهر الأبارتهايد في السياسة الإسرائيلية، ويوضح أن بعض الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة تصل إلى مرتبة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
إسرائيل بدأت تسلك طريق الانحدار الذي سيُفضي بها إلى نهايتها المحتومة. وبالتالي أصبح انهيار المشروع الصهيوني مسألة وقت
يسهم الحدث الأول في هدم الجانب المادي من الصورة التي رسمتها إسرائيل عن نفسها، دولة قوية غير قابلة للكسر أو القهر. ويتكفل الثاني بهدم الجانب المعنوي لتلك الصورة، والمتعلق بتفوق إسرائيل الأخلاقي والقيمي. ونظرا إلى ما ينطوي عليه الحدثان من دلالات كثيرة، يستحقان أن نتوقف عندهما بقدر أكبر من التفصيل.
واصل الصاروخ الذي انطلق من الأراضي السورية مسيرته من دون اعتراض، إلى أن سقط بالقرب من مفاعل ديمونة في قلب منطقة النقب. وكان موضوعا لعدة روايات تختلف في مضامينها إلى حد التناقض، فهناك رواية إسرائيلية تقول إنه صاروخ أرض - جو من طراز سام 5، أطلق على إحدى الطائرات المشاركة في غارة على مواقع سورية بالقرب من دمشق، لكنه ضل طريقه إلى أن انفجر في الجو، وسقطت شظاياه في أماكن متفرّقة، بعضها بالقرب من مفاعل ديمونا في النقب. ومن الواضح أننا هنا إزاء روايةٍ تتعمد التقليل من شأن الحادث، وتتعمد وصف مقذوفٍ انفجر بالقرب من أكثر مواقع الأمن حساسية في إسرائيل بأنه من النوع "الغبي"، أي غير القادر على إصابة هدفه. هي إذن رسالة موجهة إلى الداخل، لطمأنة الراي العام الإسرائيلي على الحالة الأمنية، وموجهة إلى الخارج أيضا، لإعادة تثبيت صورة إسرائيل في الأذهان دولة قوية قادرة على ردع كل من تسوّل له المساس بأمنها. أما الرواية الإيرانية فتقول إنه صاروخ أرض - أرض من طراز "فاتح - 110"، وليس أرض جو كما تدّعي إسرائيل، وأنه أطلق من الأراضي السورية ليصل إلى المكان الذي استهدفه، أي أنه من نوع المقذوفات "الذكية"، وأن المقصود منه لم يكن إصابة موقع نووي قد يتسبّب تدميره في كارثة إنسانية واسعة النطاق، وإنما توجيه رسالة تحذيرية مفادها بأن جميع منشآت إسرائيل الاستراتيجية، بما فيها المنشآت الأكثر حساسية من الناحية الأمنية، تقع في مرمى النيران الإيرانية. وعلى الرغم من أن بعضهم حاول الإيحاء أن إيران تبالغ، وأنها سعت إلى توظيف الحدث لصالحها بأثر رجعي، من خلال الإيحاء بقدرتها على الرد على الاستفزازات الإسرائيلية، وتتظاهر بتعمد ممارسة سياسة ضبط النفس، لتفويت الفرصة على إسرائيل التي تعمل على جرّها إلى حربٍ إقليمية، إلا أن الرواية الإيرانية تبدو أكثر قابلية للتصديق، خصوصا وأن الصاروخ، وبصرف النظر عن نوعه وطبيعة الهدف المصوب نحوه، اخترق الأجواء الإسرائيلية من أقصاها إلى أقصاها، من دون أن تتمكّن الدفاعات الإسرائيلية من التصدّي له وإسقاطه، على الرغم مما تملكه من إمكانات تكنولوجية وتسليحية هائلة، الأمر الذي يعني ببساطة أن إسرائيل بدأت تفقد سيطرتها المطلقة على أجوائها، وأن قواعد الاشتباك قد تغيرت بالفعل، أو على الأقل في طريقها إلى التغير.
إسرائيل نتاج مشروع استعماري استيطاني، صمّم أساسا لتفتيت العالم العربي، تبنّته القوى المهيمنة على النظام العالمي
أما تقرير "هيومن رايتس ووتش" عن جرائم إسرائيل العنصرية، فأهميته في صدوره بعد أسابيع قليلة من قرار أصدرته المحكمة الجنائية الدولية، أن الأراضي الفلسطينية الواقعة في حدود 1967 تشكل وحدة واحدة تنطبق عليها قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، فتقع ضمن الولاية القضائية للمحكمة، ومن ثم بات لزاما عليها بالفعل أن تفتح تحقيقا في الجرائم الإسرائيلية، وهو ما تقرر بالفعل. معنى ذلك أن هذا التقرير سيكون ضمن الوثائق محل نظر المحكمة الجنائية الدولية. صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي توجه فيها لإسرائيل اتهامات بارتكاب جرائم عنصرية وجرائم إنسانية، فقد سبق للمنظمة نفسها ولمنظمات غير حكومية أخرى، وأيضا للجان تحقيق منبثقة عن الأمم المتحدة، مثل اللجنة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان في جنيف برئاسة القاضي غولدستون، العام 2009، أن وجهت، في تقارير متتالية، اتهامات مماثلة، غير أن تقرير منظمة العفو الدولية هذا حظي بتغطية إعلامية دولية واسعة النطاق، ومن ثم شكل إضافة نوعية إلى الوثائق والجهود التي تؤدي إلى تعرية الكيان الصهيوني، والكشف عن طبيعته العنصرية الفجة.
الصاروخ الذي اخترق الأجواء الإسرائيلية من دون اعتراض، قبل أن يسقط بالقرب من مفاعل ديمونا، وتقرير منظمة العفو الدولية عن جرائم الأبارتهايد الإسرائيلية، مؤشّران قويان على أن إسرائيل بدأت تدخل مأزقا لا فكاك منه، فقد بات واضحا، من ناحية، أنها تبدو الآن عاجزة تماما عن مواجهة محور المقاومة الذي تحوّل إلى شوكة في عنقها، لم تعد قابلة للاقتلاع. كما بات واضحا أنها أصبحت، في نظر قطاعات متزايدة من الرأي العام العالمي، دولة عنصرية تقوم على نسق الأبارتهايد الذي سبق أن أوصل نظام جنوب أفريقيا القديم إلى حتفه. لذا يمكن القول إن إسرائيل بدأت تسلك طريق الانحدار الذي سيُفضي بها إلى نهايتها المحتومة. وبالتالي أصبح انهيار المشروع الصهيوني من أساسه مسألة وقت. المشكلة أن هذا التحوّل الدرامي يتم في وقتٍ يبدو فيه العالم العربي في أسوأ حالاته، ومن ثم سوف يصبّ، في النهاية، لصالح قوى إقليمية غير عربية، ما لم يستيقظ العالم العربي في اللحظة الأخيرة.