الماضي والمستقبل في نزاع المتوسط
لا داعي لاستحضار مقاربات أخلاقية لفهم النزاع الأوروبي ــ التركي في مياه البحر المتوسط. لا تركيا تمثل الخير هنا، ولا المعسكر المقابل لها يجسّد الشر، ولا العكس طبعاً. كثافة ما يكتنفه الموضوع من مظلومية تاريخية ومصالح متضاربة وطموحات لا سقف لها، ورغبات بالعودة إلى أمجاد غابرة، ونكايات وفراغ استراتيجي يجدر ملؤه وزحمة تحالفات في منطقة تغلي أصلاً، كل ذلك لا يترك مجالاً للانسياق وراء حماسة عاطفية لهذا الطرف أو ذاك، على غرار متيمين باندلاع حرب لن تقع على كل حال. وأشد المتحمسين للتصعيد بالمناسبة لا علاقة مباشرة لهم بالأزمة التركية ــ اليونانية، أو بالأحرى التركية من جهة والأوروبية ـ المصرية ـ السعودية ـ الإماراتية ــ الإسرائيلية من جهة ثانية. والإعلام المحلي لطرفَي النزاع، هو الأكثر هدوءاً في مصطلحاته وأقل كمية من الشتائم في تعاطيه مع النزاع الحدودي، مقارنةً مع السعار الذي لا يُطاق في أثير مواقع وتلفزيونات وصحف سعودية ومصرية وإماراتية. الخلاف الحدودي ـ النفطي ـ التوسعي الذي اصطُلح على تسميته "أزمة شرقي البحر المتوسط" شديد التشابك. وما يزيد من تعقيده أن التاريخ يدخل في تفاصيله مجدداً، كذلك تقتحم المشهد عناوين لا تقتصر على إطار الطاقة المعروف للأزمة، فتجد في خلفيات العقدة الحالية، مسائل المهاجرين السريين وحربي ليبيا وسورية والعضوية المستحيلة لتركيا في الإتحاد الأوروبي وعدم حسم مسألة قبرص (منذ 1974) وتفتت حلف شمال الأطلسي والانسحاب الأميركي من المنطقة وتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، وضعف فاعلية قوانين دولية عديدة.
تركيا تعتبر أنها محرومة من حقوق وثروات طبيعية منذ اتفاقيتي سيفر (1920) ولوزان (1923). تدرك أن أكثر ما يمكن أن تخسره من التصعيد الحالي، قد خسرته فعلاً، أي حظوظ قبولها عضواً كاملاً في صفوف الاتحاد الأوروبي. من غير الوارد بالنسبة إلى حكامها، وهم أصحاب طموحات قومية توسعية، أن يلجأوا إلى أدوات ناعمة لاسترداد "الحقوق"، أي إلى القانون الدولي، لأنهم يرون أن من يقرر في تلك النزاعات لا يزال هو نفسه من جرّدها مناطق بحرية مهمة من مياهها الإقليمية في فرنسا عام 1920 (سيفر)، ثم في ترسيم الحدود بين تركيا واليونان عام 2000، وربما يكون هو نفسه من يفرض عليها عقوبات في 24 من الشهر الحالي، إلا إذا نجحت الوساطة الألمانية. وجدت أنقرة نفسها منذ مطلع الحالي أمام تحالفات واتفاقيات غاز ونفط تعلن رسمياً العداء لها، تجمع في إحداها كلًا من اليونان وقبرص وإسرائيل لمد خط غازٍ إلى أوروبا يتجنب تركيا، وأمام "منتدى الغاز في شرق المتوسط"، الذي يضم، إضافة إلى الدول الثلاث المذكورة أعلاه، كلًا من مصر وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية والإمارات، بدعم أميركي. أمام واقع كهذا، أبرمت تحالفها الخاص من البوابة الليبية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لتوسيع حدودها البحرية وحقوق تنقيبها عن الغاز الذي تختزنه مياه المتوسط. هذا في الجانب التقني. لكن خلف الصورة ما خلفها: ليس تفصيلاً أن فرنسا برئيسها إيمانويل ماكرون، هي من تدير دفة التصعيد من الجانب المضاد لتركيا. تشرح مجلة "لوموند ديبلوماتيك"، في عددها الشهر الحالي (سبتمبر/ أيلول 2020)، بملف من آلاف الكلمات، كيف يسعى ماكرون إلى التخلص من "الدولة العميقة" التي تدير الدبلوماسية الفرنسية منذ أواخر ولاية نيكولا ساركوزي مروراً بعهد فرانسوا هولاند، والتي يحكمها "محافظون جدد" (التعبير للمجلة الفرنسية) يدفعون نحو ارتماء باريس خلف كل قرارات واشنطن في السياسة الخارجية. ومنطقة شرقي المتوسط من بين تلك المناطق التي تنسحب منها أميركا الترامبية بالتدرج. إذاً، يريد ماكرون لفرنسا أن "تعود" إلى المنطقة. و"العودة" تلك تجد موطئ قدم في بقع جغرافية مغرية، من بينها مياه المتوسط حيث هناك "خصم" أو "عدو" يسهل حشد الحلفاء ضده: رجب طيب أردوغان.
أزمة شرقي البحر المتوسط عيّنة لما يكون عليه عالم يحكمه شعبويون يمينيون يجيدون اللعب في الوقت الأميركي الضائع. كم يحتاج هذا العالم إلى تحالف للشعوب.