المالكي والصدر والمواجهة المقبلة
يبدو أنّ العملية السياسية في العراق التي فصّلها المحتل الأميركي على مقاسات من جاء بهم من الخارج قد بدأت تلملم أشياءها لترحل غير مأسوف عليها، ليس لأنّها فشلت فحسب في بناء دولة، وإنّما لأنّ شركاءها اختلفوا على المغانم وتقسيم الكعكة، وصار الحديث عن مواجهة مسلحة بينهم يسمع في ثنايا أحاديثهم الخاصة وحتى العامّة.
بدأ الصراع الذي كان مكتوماً بين الإخوة الأعداء يظهر إلى السطح جلياً، ظهور تُسمع معه قرقعة سلاح وفوضى عارمة، وربما تدخل خارجي بطريقةٍ ما، ليُسدل الستار على واحدة من أكثر مراحل تاريخ العراق الحديث بشاعة، مرحلة تفتتت فيها الدولة، وانحازت أجهزتها لمشاريع طائفية وفئوية وحتى أجنبية.
ربما سيكونان، مقتدى الصدر ونوري المالكي، عنواناً عريضاً لنشرات الأخبار في المرحلة المقبلة، بعدما بدأ يظهر جلياً أنّ كليهما يقفان على طرفي نقيض، فالصدر يدرك أنّ مشكلته ليست مع السُنّة ولا مع الأكراد، وإنّما مع خصومه الشيعة الذين يعتقدون أنّ حكومة بقيادة مقتدى وتياره يمكن أن تساهم في إبعادهم عن مواقع النفوذ، وربما حتى محاكمتهم وتصفية الحساب معهم.
في خضم كلّ هذا الصراع البادي بين الصدر وخصومه الشيعة، تأتي التسريبات الأخيرة لنوري المالكي لتؤكّد المؤكّد، وهي أنّ لكلي الرجلين، المالكي والصدر، مشروعه الخاص والمتمثل بقيادة شيعة العراق، فهذه القيادة هي الوحيدة التي تمكّنهم من قيادة العراق، بعدما جرى إضعاف الشركاء الآخرين في الوطن، السُنّة والأكراد.
حراك أميركي واضح، يسعى إلى العودة إلى منطقة الشرق الأوسط، بعد سنوات من الفراغ
كان المالكي في تسجيلاته المسرّبة واضحاً، يرى في مقتدى الصدر مشروعاً بريطانياً لتفتيت الشيعة. هكذا يريد أن يوصل الرسالة إلى أبناء المذهب الشيعي، لتخويفهم من مغامرة الصدر بالتحالف مع السُنّة والأكراد على حساب أبناء المذهب في "الإطار التنسيقي". لم يكتفِ المالكي بالتخويف من تحالف الصدر مع السُنّة والأكراد، بل تحدّث عن مخططه هو شخصياً لمهاجمة النجف، في إشارة إلى الصدر، إن استدعى الأمر ذلك، بل زاد في الهجوم حتى على "الحشد الشعبي" الذي كان يفتخر بأنّه وراء فكرة تأسيسه، متهماً قادته بالسرقة والقتل ونهب خزينة الدولة، ناهيك عن حديثه عن تشكيله قوة خاصة لديها دبّابات ومدرّعات ومسيّرات... وربما كان المالكي واضحاً في تسريباته وهو يتحدّث عن مواجهة قادمة، تماماً كما كنّا نقول دوماً، مواجهة ليست سنّية شيعية أو شيعية كردية، وإنما شيعية شيعية، بين قوتين تمتلكان النفوذ والمال والسلاح، وتتعارضان في طبيعة المشروع.
تأتي هذه التداعيات والصراعات بين مشروعين شخصيين؛ في ضوء حراك أميركي واضح، يسعى إلى العودة إلى منطقة الشرق الأوسط، بعد سنوات من الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي، سياسياً، من المنطقة، وما فعله هذا الغياب من تمدّد مشاريع عالمية كبرى في المنطقة التي كانت ذات نفوذ أميركي خالص، وأعني هنا الصين وروسيا، وهو ما أكّده الرئيس جو بايدن عشية وصوله إلى العربية السعودية لحضور قمّة جدّة للأمن والتنمية.
يتحدّث بايدن عن مشروع الربط الكهربائي للعراق مع منظومة الكهرباء الخليجية، وكأنه وصيّ على تلك الدول ومعها العراق، في تصريح يفتقر حتى لأبسط معايير الدبلوماسية، بينما لا يتردّد أيضاً في التأكيد على أهمية تشكيل حكومة عراقية تستجيب لمطالب الشعب العراقي، بعد لقائه رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، في إشارة إلى مسعىً أميركي جديد للتدخل في ملف تشكيل الحكومة العراقية، بعدما غابت الولايات المتحدة طوال السنوات الأربع أو الخمس الماضية عن هذا الملف، وهي التي كانت لاعباً بارزاً في تشكيل حكومات سابقة، بدءاً من حكومة إياد علاوي 2005 مروراً بحكومة إبراهيم الجعفري وحكومتي نوري المالكي وصولاً إلى حكومة حيدر العبادي.
فرصة التحوّل إلى مشروع سياسي جديد وجيد، قادر على النهوض بالعراق، ضئيلة
لا شيء يجري في المياه العراقية أكثر من ركودها، فهي، وإن بدَت متحركة جارية بفعل الأحداث المتعاقبة، فإنّها تكرّر نفسها حدّ الملل، فلا انتخابات يمكن أن تفضي إلى حكومة على أساس ما تفرزه، ولا تظاهرات شعبية قادرة على أن تقضي على طبقة سياسية فاسدة ومتوحّشة، ولا حتى تحويل العراق إلى ملعب إقليمي ودولي لتصفية الحسابات الكبرى.
من هنا، تبدو فرصة التحوّل إلى مشروع سياسي جديد وجيد، قادر على النهوض بالعراق، ضئيلة، خصوصاً إذا كانت القوى الراغبة في تحريك مياه العملية السياسية الآسنة لا تسعى طمعاً بالتغيير أو الإصلاح بقدر رغبتها في الاستفراد بحكم العراق بطريقةٍ ما، ليبقى الصراع بين المالكي والصدر مستمرّاً، بين من يريد أن يحوّل المليشيات إلى دولة ومن يريد أن يحول الدولة إلى مليشيات، من دون نزوع حقيقي لتحويل الدولة إلى دولة، ونزع مخالب المليشيات التي يمتلكها هذا الطرف أو ذاك.
خطاب مقتدى الصدر في جمعته المليونية في 15 يوليو/ تموز الجاري، والتي دغدغ من خلالها مشاعر حلفائه السُنّة والأكراد، مردود عليه، وهو الذي يمتلك مليشيات مسلحة تسيطر على عدة قواطع في مدن شمال غرب العراق، وما زال يرعى عناصر مليشياوية لها تاريخ أسود في حقبة الطائفية المقيتة، تحديداً بين عامي 2005-2007، من دون أن يبادر هو قبل غيره إلى محاسبتهم والتبرؤ منهم، أو حتى على الأقل الاعتراف بما فعلته مليشياته من جرائم. في المقابل، يبدو أنّ المالكي، صاحب الأنا المتورّمة، يدرك جيداً أنه، بعد تسجيلاته المسرّبة، بات أضعف من أن يبقى رقماً في معادلة السياسة العراقية، أو هكذا يجب أن يكون. لكنّه على الأقل فقد كلّ فرصة لوصوله مرة أخرى إلى رئاسة الحكومة.
في المحصلة، لا مشروع سياسياً لإنقاذ العراق من قوى وأحزاب وشخصيات دينية وسياسية، كانت سبباً في خرابه، وانتظار عودة أميركا لاعباً رئيسياً لمنطقة الشرق الأوسط، ربما لن يساهم في تحقيق ذلك، بل قد يزيد من بلة الطين، ليبقى الرهان على آلة الزمن التي لديها القدرة على تغيير إعدادات بلد طال مكوثه في بطن حوت الفساد والطائفية والقتل الممنهج.