"المجتمع ضد الدولة" في المغرب
تقوم فرضية كتاب "المجتمع ضد الدولة: الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب" للسوسيولوجي المغربي عبد الرحمن رشيق (صدر بالفرنسية سنة 2016، وبالعربية بترجمة عز الدين العلام سنة 2021 عن دار ملتقى الطرق) على فكرةٍ يختصرها في عدم بلوغ المجتمع الحضري المغربي الهيكلة الكافية التي تضمن علاقات هادئة بين الدولة والسكان، ذلك أن هشاشة الوساطة الاجتماعية على مستوى الأحياء، رغم حجم الاستياء المنتشر لا تملك بعد فاعلين قادرين على التعبئة.
ومن الواضح أنّ رشيق استثمر خبرته بوصفه متخصّصاً في سوسيولوجيا الاجتماع الحضري، لفهم طبيعة التحوّلات المرتبطة بالاحتجاج الاجتماعي في المغرب، وفكّ الترابطات البدهية التي تجعل من ارتفاع نسب الإحباط سببية حتمية للتمرّد والاحتجاج، مسترشدا بفكرة ألكسيس دو توكفيل أن الثورة لا تكون دائماً دليلاً على الانتقال إلى الأسوأ، والتجربة تعلم أن لحظة الإصلاح الذاتي لأي حكومة هي الأخطر في تاريخها، لأنها بذلك تغذّي الأمل، وتضاعف من الانتظارات الاجتماعية التي تشجع على التنظيم الاجتماعي للاحتجاج.
مؤكّد أن وصف مسار الفعل الاحتجاجي في المغرب يقتضي تتبّع كل مراحله منذ استقلال المغرب، ولنقل، منذ لحظة ولادة قانون الحرّيات العامة بالمغرب سنة 1958. لفهم تغيرات هذا الفعل من العصيان القبلي الذي تشابهه بعض سلوكيات العنف الجماعي ما بين الأحياء، إلى لحظة تضاعف نسب توغل الحداثة في بنية الاجتماع الحضري المغربي. وفي استعارة من رشيق للفكرة الكلاسيكية عند آباء السوسيولوجيا وحسب عبارة جورج زيمل، فالتحفظ والبرودة واللامبالاة هي المؤطّر لعملية تكيّف الفرد داخل المدينة. لذا، عملية ذوبان الأفراد داخل هذه البنية النفسية الاجتماعية للمدينة ستجعلهم في بحثٍ دائمٍ عن وسائل تدفئة بديلة، وإيجاد روابط اجتماعية مغذّية للحميميات المفتقدة، كالفضاء الأسري وفضاءات الجوار... إلخ.
يسير مناخ الإحساس الجماعي نحو مزيد من انعدام الثقة في المؤسّسات
بناء على هذه الخلاصات السوسيولوجية، يصوغ رشيق سردية خاصة بالمجتمع المغربي، ويتطوّر فعله الاحتجاجي داخل المجال الحضري الذي انطلق بتأطير نسبي للوسطاء الاجتماعيين الكلاسيكيين، كالأحزاب والنقابات والجمعيات التي رسّخت التحوّل نحو سلمية الاحتجاجات الاجتماعية، لكنها قد وصلت إلى الباب المسدود منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، لتضع المجتمع أمام تسلسل خيبات أمل النموذج الديمقراطي المغربي الذي تميّز، حسب عبارته، بالملامح التالية: ضعف الوسائط الاجتماعية، شبه التوافق بين الأحزاب السياسية، الموقف السلبي من الاحتجاجات الاجتماعية في المجال العام.
إذاً، يسير مناخ الإحساس الجماعي نحو مزيد من انعدام الثقة في المؤسّسات، إحساس ستذكيه عودة السياسة السلطوية منذ 2013 - 2014، التي ستتنبّه إلى أهمية احتلال الفضاء العام، والتي ستستأثر بها لنفسها، وستحدّ من مزاحمة الأطراف الاجتماعية الأخرى، عبر سياسة التراخيص الإدارية المسبقة. أمّا قمّة هذا المسار الديمقراطي المخيّب للآمال فبلوغ لحظة استصدار أحكام قاسية تجاه زعماء الحركات الاجتماعية. وقد أسهم بلوغ هذه اللحظة، بحسب رشيق، وتزامنا مع سياقات الربيع الديمقراطي، في التقليص العددي لهذه الاحتجاجات، لكنه ضاعف من امتدادها الزمني، وزاد من كثافتها، ومن أمثلة يسوقها دليلا: احتجاجات سكان إيميضر سنة 2011-2019، والطلبة الأطباء 2015، والطلبة - الأساتذة 2015-2018، ساكنة منطقة الريف 2016-2017، ساكنة مدينة جرادة 2018، الأساتذة المتعاقدين 2018-2019.. إلخ.
مسيرة البحث عن مكامن الدفء المدنية ستستمر داخل البنية الاجتماعية المغربية
غير أن مسيرة البحث عن مكامن الدفء المدنية ستستمر داخل البنية الاجتماعية المغربية، التي ستعوّض انخفاض الاحتجاجات في الفضاء العام باللجوء إلى مساحات بديلة، كملاعب كرة القدم التي كانت تثير دهشة المتابعين، من خلال شدّة الحنق والغضب الذي يؤثث شعاراتها، وكيف أنها تتفاعل مع كل مستجدّات السياسة المغربية، بل ومستجدّات السياسة العربية الإسلامية والدولية. نذكر على سبيل المثال تعاطف هذه الجماهير مع نضال الشعب الفلسطيني، ورفعهم لافتاتٍ ورموزا شديدة الارتباط بالقضية والحدث المقصود في حينه. كذلك الاحتماء وراء الشبكات العنكبوتية التي يعتبر رشيق بأنها نقلتنا نحو أشكال جديدة للاحتجاج، يقودها فاعلون مجهولو الهوية، ويضرب مثالا على ذلك بالمقاطعة الاقتصادية لبعض الشركات المغربية، والتي جعلت الدولة أمام سلوك احتجاجي مجهول المصدر وذي تعاطف كبير، كما أن هذا الفعل الاحتجاجي الجديد فضح هشاشة الفعل السياسي المغربي وقدرته على التأقلم وتدبير الأزمة، حيث أدّت سلوكياتهم إلى استفزاز مزيد من الناشطين الفيسبوكيين، ومزيد من ثم من ردود الأفعال الاحتجاجية الإلكترونية من قبيل (التهجم، اطلاق الإشاعات، التلاعب بالفيديوهات والصور). وبحسب رشيق، أصبحنا نشهد احتجاجات لأشخاصٍ يعتبرون أقوالهم وأفعالهم خارج نطاق المسؤولية، كنتيجة لانسداد كل منافذ التعبير الحرّة المنسجمة مع السلوك الديمقراطي الشفّاف والحر.
ولا يمكن أن تغفل خلاصات رشيق الهامة بشأن طبيعة الفعل الاحتجاجي الذي تولد مع حركة 20 فبراير، حيث وجدت الدولة نفسها أمام شباب غير معروف، ولا حضور له في وسائل الإعلام، ولا يملك جهات مسيّرة أو يعترف بقيادات سياسية، ولا سلطة يملكها للتأثير، ومن دون تجربة نضالية سابقة، بالإضافة إلى تميّزه بضعف العدّة الثقافية والسياسية، لكنه رغم ذلك كله يقاوم سلطة منظمّة ومهيكلة. وهذا ما كان الأشد إرباكا للدولة التي تعوّدت على النماذج الاحتجاجية الكلاسيكية المتمايزة بتوجهاتها وانتماءات أصحابها. ورغم أن هذه الحركة استطاعت التغلّب على تجاذبات الأيديولوجيات الكلاسيكية وتذويبها نسبياً لصالح التغيير الذي يوحّد الجميع، فإنّ كلّ هذه الميزات النسبية التي لاحظها على الحركة هي نفسها التي سيجعل منها سبباً في انكماشها وتحوّلها نحو الراديكالية.