المحاصصة والتوافقية معضلتا الحوار الليبي
تكرّرت الحوارات الليبية شهوراً، وبأطراف متعددة، غير أنها لم تكن ذات نتيجة، أو جدوى تعود على الدولة واستقرارها؛ بل وحتى إنهاء الخلاف القائم فيها، ليجعل للمتابع والمهتم إمكانية تقييمها، وإبراز عوامل فشلها، من الجوانب كلها، الأمر الذي يقود إلى التركيز على معضلتين رئيسيتين تجعل من الفشل مرافقا لكل الحوارات الليبية، سواء التي ترعاها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أو الأخرى التي تجري بين أعضاء مجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة، هما: المحاصصة أو الجهوية، والإصرار والتركيز على مبدأ التوافق (أو التوافقية) في حسم الاختيارات والاختلافات بين المتحاورين المختلفين .. لنقف عند هاتين المعضلتين في وقفتين:
الأولى: ظهرت معضلة المحاصصة واضحة وجلية في أغلب الحوارات السياسية، بل وحتى التسويات منها، ليكون في كل مرة الفشل عنوانها، تسويةً أو حواراً، غير أنها ظهرت على السطح بشكل أكبر وفجّ، عندما أعلن أخيرا عن التوافق بين أعضاء البرلمان والمجلس الأعلى للدولة المتحاورين في بوزنيقة المغربية على تقاسم المناصب السيادية بين الأقاليم التاريخية الثلاثة، برقة وطرابلس وفزان، المنصوص عليها في المادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي (اتفاق الصخيرات)، الموقع في ديسمبر/ كانون الأول عام 2015، وهي: مصرف ليبيا المركزي، وديوان المحاسبة، وجهاز الرقابة الإدارية، وجهاز مكافحة الفساد، والمفوضية العليا للانتخابات، والمحكمة العليا، والنائب العام. لتكون نتائج "الاتفاق" محاصصة جهوية جغرافية إقليمية موزّعة على الأقاليم الجغرافية التاريخية الثلاثة، وليكون لإقليم طرابلس من المناصب السيادية الثمانية: المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، والنائب العام، وديوان المحاسبة، بينما يكون لإقليم برقة: مصرف ليبيا المركزي، وهيئة الرقابة الإدارية، وليكون لإقليم فزان: المحكمة العليا، وهيئة مكافحة الفساد، بتوزيع محاصصي جهوي لا يؤسس لدولةٍ ولا يبنى عليه استقرار، بل يتبين للناظر إلى هذه المحاصصة مدى الخطر الذي ينتج عن هذا العرف، إن أوجد على الأرض وكان واقعاً، باعتبار أن من الصعب بعد ذلك التخلص من هذا العرف، ليس على المدى القريب فقط، بل حتى على المدى البعيد، والتاريخ والدول التي نحت نحو هذا المنحى لهو خير دليل، فكم من دولةٍ تكونت على مبدأ المحاصصة بأنواعها المختلفة، وبنيت على أساسها اتفاقاتٌ محليةٌ برعاية دولية وغيرها، لتسقط بعدها في مستنقع جهوي كبير عند أول انعطافةٍ سياسية داخلية، ولتكون دوامة المحاصصة والجهوية المحرّك الفعلي لها، يصل، في أحيان كثيرة، إلى انسداد العملية السياسية التي لن تكون إن غابت عنها المحاصصة والجهوية التي تفسد ولا تصلح.
خيار المحاصصة الذي يراد له أن ينتج واقعا جديدا في البلاد لن يكون، في الحقيقة، إلا واحدا من أبواب الفساد السياسي والمالي
الوقفة الثانية: برزت معضلة التوافق، وكان لها أثر كبير على مجريات الحوار الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، عند محاولة اتخاذ قرارٍ بالتوافق على من يتولى رئاسة المجلس الرئاسي، والحكومة التنفيذية، باعتبار أنهما تتجاذبهما التوافقات الجانبية، وانعدام التوافق الكلي النسبي من أعضاء فريق الحوار، وبالتالي سيكون التوافق معضلةً، بدلاً من أن يكون حلاً.
ربما أخيرا استدرك هذا الأمر، واعتبر أن القائمة التي تتحصل على نسبة 60% من أعضاء المجمع الانتخابي العام، وهو فريق الحوار، هي القائمة الفائزة، لينتقل بعدها في الجولة الثانية إلى التصويت بين القائمتين المتحصلتين على أعلى نسبتي تصويت في الجولة الأولى، إذا لم تتحصل أي قائمة على نسبة 60%، المطلوبة للفوز، ويكون الحسم بينهما بنسبة 50+1%. وبالتالي، يكون بهذا الإجراء قد ابتعد على مبدأ التوافق الذي لن يكون واقعياً باعتبار أن المتحاورين تتجاذبهم التوجهات السياسية المختلفة، ناهيك عن الاتفاقات الجانبية التي تقسم أعضاء فريق الحوار، وينعدم معها التوافق الكلي.
خيار المحاصصة الذي يراد له أن ينتج واقعا جديدا في البلاد لن يكون، في الحقيقة، إلا واحدا من أبواب الفساد السياسي والمالي، والذي يعتمد على تقاسم مراكز القوة والحكم في الدولة، بل وحتى تجذير هذا الفساد عبر هذه المحاصصة بإلغاء التمثيل الحقيقي للشعب، وحتى دور مؤسسات الدولة الوظيفي والحقيقي، لتكون رهينةً لتقاسماتٍ جهويةٍ لا تقيم وزنا للمعايير العلمية الحقيقية من "الكفاءة والنزاهة" وغيرهما، لتوالى المناصب السيادية في البلاد، بل ربما ستكون أولى مراحل انهيار الدولة بشكل من الأشكال.
وأخيرا، "التوافقية"، في حد ذاتها جيدة، بل ضرورية إذا أريد بها البناء والتوافق الحقيقي، مع إمكانية تطبيقها. أما إذا كان المراد منها هو العكس من ذلك، فإنها تتحوّل إلى معول هدمٍ وليس بناء، لأنها سوف تنصدم بواقعٍ لا يقبل وجودها بأي شكل، خصوصا إذا اقترنت "بمبدأ المحاصصة". ليكون الحل الواقعي هو السعي في محاولة إيجاد مشروع وطني شامل يبنى على أسس علمية، تنبذ المحاصصة والجهوية، وتعزّز مبدأ العدالة والنظام.