عندما تصنع الاغتيالات القادة
دَرْبُ المقاومة الفلسطينية طويلٌ بدأ منذ أول يوم وطأ فيه الاحتلال أرضَ فلسطين، فكانت المقاومة والدفاع عن الأرض والعرض، يَتقدَّمهم في ذلك القادةُ السياسيون والعسكريون من أبناء البلد، ليكونوا شهداءَ في ساحةِ المعركة، أو اغتيالاً وتفجيراً في أماكن مختلفة.
اليوم يغتال العدوُّ الصهيوني أحدَ رموز وقادة المقاومة الفلسطينية في غزّة، ورئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنيّة، بعد أن عجزوا سياسياً وأمنياً، وتكتيكاً حربياً. وفي خضمّ هذه الأحداث، وما تمرُّ به فلسطين منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، هناك رسائل تُقرأ، وأحداث تتوالى، ليس في الصعيد الدولي، ناهيك عن العربي والإسلامي، فحسب، بل في الصعيدين الشعبي والمجتمعي الداخلي، سواء في داخل فلسطين، أو في امتداد أقطار الأمة الإسلامية جميعاً. وبالتالي، وجب علينا الوقوفُ قراءةً في هذه الأحداث، من خلال وقفات عدّة.
الوقفة الأولى: لم يكن الاغتيال يوماً، ولن يكون، عبر مرّ السنوات والعقود من الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، عنصرَ هدمٍ أو تراجعٍ في المقاومة من أبناء فلسطين كافّة، وخاصّة من حركة حماس، والناظر إلى التاريخ القريب يدرك ذلك، فَجُلُّ قادة الحركة كانوا شهداءَ، ومَنْ جاء بعدهم من أجيال نشأوا وتربّوا على ذلك. كلُّ جيلٍ يزداد جلادةً ومقاومةً عن الذي قبله، وكأنّ هذه السياسة، أيّ سياسة القتل والاغتيال، تصنع القادة وتصقلهم، بل تضخُّ الدماء الحيّة الُمتجدّدة في أبنائها، وفي صفوفها، صُنْعَاً للقادة، ودفعاً عن القضية.
الوقفة الثانية: الصمودَ الأسطوريّ لأبناء فلسطين عامّة، وغزّة خاصّة، طوال الأشهر الماضية، ضدّ آلة الحرب الصهيونية، وعجزها عن تحقيق أيّ نتائج تُذكَر خلال هذه المدّة الطويلة، دليلٌ على أنّ المقاومة الفلسطينية وضعت جيش الاحتلال في موضعه الذي يليق به، وأسقطت عنه كلَّ الهالاتِ التي كان يُروِّجها عن نفسه.
لن تكون دائرة الحرب بعد اغتيال إسماعيل هنيّة كما كانت قبله داخلياً وإقليمياً
الوقفة الثالثة: الحرب اليوم بعد هذا الاغتيال، لن تكون حرباً داخل الأراضي الفلسطينية فحسب، بل ستمتدّ إقليمياً إلى دول أخرى، وستكون التكلفةُ باهظةً على الكيان الصهيوني، لأنّ حالة غزّة، من ناحية الانفراد بها، لن تكون في الدول الأخرى التي بدأت شرارتها فيها.
الوقفة الرابعة: ربّما بهذا الاغتيال يكون قد أُسْدِلَ الستارُ على المعركة الجانبية لكثير من الدول، أو بالأحرى "حرب المنطقة الرمادية"، كما وصفها أحد البحَّاثة. وبالتالي، فإنّ الدولة التي وقع فيها هذا الاغتيال سوف تكون تحت أمرَين لا ثالث لهما: إمّا الردّ بقوّة وبالعمق نفسه أو أن تكون خارجَ نطاقِ المقاومة، بل سيُخرِجها من أيّ حسابات كانت تضع نفسها فيها إقليمياً ودولياً، الأمر الذي من شأنه أن يعيد تشكيل هذه الحرب الُمستمرّة منذ تسعة أشهر.
عود على بدء، باءت سياسة الاغتيالات عبر عقود متوالية ومتتالية، التي قادها الكيان الصهيوني لتحقيق أهدافٍ مُعيّنةٍ في وقتها، كلّها بالفشل، وخصوصاً التي تحاول إضعاف فاعلية المقاومة وقتل الروح المعنوية لها، ولكنّ النتيجة دائماً ما تكون في النقيض من ذلك، إذ غالباً ما تكون الآثار الاستراتيجية لهذا الاغتيال أو ذاك وبالاً عليها، ودافعاً للمقاومة في مواصلة نهجها ودفاعها عن أراضيها، بل هذا الأمر يتيح للمقاومة تجديد دمائها بدافع إيماني تتجدّد معه العزيمة والإصرار على مواصلة الدرب، والدفاع عن الأرض والعَرض، وهذا ما كان عبر عقود من الاغتيالات في صفوف قيادات من الفصائل الفلسطينية المختلفة، وحتّى لشخصياتٍ كثيرة يُعتقَد أنّ لها دوراً بارزاً في دعم القضية والمقاومة الفلسطينية، حتّى من غير الفلسطينيين، وإن كانوا من الكوادر التي تمتلك مهاراتٍ نوعيةً تدعم بها القضية الفلسطينية فحسب. وفي المحصّلة، لن تكون دائرة الحرب بعد هذا الاغتيال كما كانت قبله داخلياً وإقليماً.