المدير بومبيو واغتيال سليماني
صدر، أخيراً، كتاب مذكرات وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو "لا تتزحزح عن موقفك، القتال من أجل أميركا التي أحب" في 438 صفحة، ليضيء على جوانب حفلت بها الخارجية الأميركية وسياساتها في واحدةٍ من أكثر الحقب الرئاسية إثارة للجدل في عهد أميركا الحديث، والتي وصل فيها دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرشّحاً جمهورياً من 2016 حتى 2020، حقبة ما زال كثير من تداعياتها يفعل فعله في مختلف الملفّات الخارجية، ومنها طبعاً وربما في مقدمتها ملف الشرق الأوسط.
يتزامن صدور مذكرات بومبيو مع الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق، وربما كان تزامناً غير مقصود من الوزير السابق، لكنّ ما جاء في مذكراته بخصوص الشرق الأوسط، والعراق خصوصاً، يجعلنا نربط، مضطرين، بين الحدث الذكرى والمذكّرات الصادرة حديثاً، خصوصاً أنّه يختتم الفصل الخاص بالعراق والشرق الأوسط بالقول: "ليس هناك ما هو سهل في الشرق الأوسط، في النهاية، واصلنا خسارة الأرض لصالح إيران داخل العراق".
واحدٌ من أكثر الفصول التي وردت في مذكرات بومبيو تلك الخطة المتعلقة باغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، تلك العملية التي جرت على مقربة من مطار بغداد الدولي مطلع العام 2020. يومها نفّذت طائرة أميركية مسيّرة ضربة صاروخية على موكب سليماني بعد وصوله إلى بغداد قادماً من دمشق، وكان في استقباله نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي ومؤسس كتائب حزب الله العراق، أبو مهدي المهندس. كتب بومبيو عن العملية بإسهاب، وكشف كيف تم التخطيط لها، واصفاً سليماني بأنه كان خطراً على أميركا من خلال نجاحه في إنشاء شبكة علاقات واسعة في العراق والشرق الأوسط. واستشهد بومبيو بمقابلته مع رئيس الحكومة العراقي، حيدر العبادي، عام 2017، حيث طلبت واشنطن من بغداد التوقف عن استيراد الكهرباء من إيران حتى لا تتعرّض للعقوبات الأميركية، عارضاً دعماً أميركياً مالياً على العراق مقابل التخلي عن الكهرباء الإيرانية. يذكر بومبيو أنّ العبادي نظر إليه مباشرة وقال: "بعد أن تغادر سيأتي قاسم سليماني لرؤيتي، ربما بإمكانك أخذ أموالي، لكنّه سيسلب مني حياتي". مشهدٌ مقتضبٌ من واقع عراق ما بعد 2003، العراق الذي بشّرت به أميركا ليكون عراقاً ديمقراطياً ومنارة لدول الشرق الأوسط، في إطار نظريتها للفوضى الخلاقة التي ظهرت إلى العلن عقب تفجيرات "11 سبتمبر" (2001) وما تلاها من غزوين لأفغانستان والعراق.
كشف بومبيو في مذكراته خفايا كثيرة في اتخاذ قرار قتل سليماني
يشرح بومبيو، في كتابه، بإسهاب، تفاصيل خطّة اغتيال سليماني، مذكّراً برسالة شديدة اللهجة، كان قد وجّهها إلى قائد فيلق القدس الإيراني، يوم كان رئيساً للاستخبارات الأميركية، محذّراً فيها من مغبّة تعريض حياة الأميركيين للخطر، غير أن سليماني لم يواصل تهديداته، بحسب بومبيو، مشيرا إلى استهداف قواعد أميركية بطائرات مسيّرة، واستهداف السعودية بصواريخ باليستية، طبعا من دون أن تؤدّي إلى سقوط قتلى أميركيين كما نعلم، فقد كان سليماني، في ما يبدو، يدرك حدود اللعبة ومساراتها. ومع ذلك، كانت الصواريخ الأميركية له بالمرصاد في حادثةٍ اعتقد بعضهم أنها ستشعل الحرب التي تتأجّل في كل مرة بين واشنطن وطهران، غير أن ما حدث خلاف ذلك.
يكتب بومبيو في مذكّراته أنّه سيبلغ الإيرانيين بعد العملية أنّ اغتيال سليماني لن يكون معناه محاولة أميركا ضرب النظام السياسي في إيران، وهي الرسالة التي وصلت إلى طهران على ما يبدو مباشرة عقب اغتيال سليماني، وهي الرسالة التي كانت أهم ما تحتاجه طهران التي ربما اعتقدت، هي الأخرى، أن ترامب وفريقه، وبعد تمزيق الاتفاق النووي، سيذهبون إلى أبعد من ذلك، خصوصا بعد اغتيال سليماني. وهذه النقطة بالتحديد هي جوهر ما كتبه بومبيو بخصوص العلاقة بين إيران والولايات المتحدة، فعلى الرغم من أنه كشف خفايا كثيرة في اتخاذ قرار قتل سليماني، وسلّط الضوء حتى على النقاشات بينه وبين ترامب ومعهما وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان في ديسمبر/ كانون الأول 2019 لاتخاذ قرار اغتيال سليماني، لكنّ النقطة أعلاه التي أوردها بومبيو جوهريّة ومهمة.
الضربات الإيرانية التي استهدفت قاعدة عين الأسد الأميركية في الأنبار ردّاً على اغتيال سليماني، لم تُصب جندياً أميركياً واحداً
كثيراً ما كنّا نقول إنّ العداء الأميركي الإيراني هو عداء مصالح، لا يمكن أن يتطوّر في لحظة معينة، على الأقل حالياً، إلى عداء مسلّح مميت لهذا الطرف أو ذاك، فطهران تعرف جيداً أنّ أيّ نية أميركية لضرب نظامها السياسي ممكنة، وأنّ لدى واشنطن كلّ الأدوات لفعل ذلك، لذا فإنّها ملتزمة بعدم إغضاب واشنطن، وخير دليل على ذلك أنّها، رغم كلّ المناوشات الكلامية والتهديدات التي تصدر عن طهران، ملتزمةٌ بعدم المساس بحياة الأميركيين، جنوداً أو غير جنود، حتى أنّ الضربات الإيرانية التي استهدفت قاعدة عين الأسد الأميركية في الأنبار (غرب العراق) ردّاً على اغتيال سليماني، لم تُصب جندياً أميركياً واحداً.
إشارة لافتة أخرى في ما يتعلّق بالعراق، ففي معرض حديثه عن رئيس الوزراء العراقي الأسبق، الذي أطاحته ثورة تشرين (2019)، عادل عبد المهدي، كتب بومبيو أنّ الحديث مع عبد المهدي كأنّه حديث مع شخص إيراني، وصف فيه دلالاتٍ كثيرة على طبيعة الأطراف والجهات التي قتلت 800 عراقي، وتسببت بعاهات مستدامة لنحو 25 ألف عراقي من شباب ثورة تشرين.