المرأة والطفل والأسرة في سورية اليوم
أهم مخرجات 12 سنة من "كارثة القرن"، الأزمة السورية، كما وصفها الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، إجبار ملايين السوريين على ترك كل شيء خلفهم، من بيوت وماضٍ وتاريخ وأحلام، والهروب تائهين على دروب القدر، فإما يصلون إلى بلاد لجوء تقدّم لهم ما يحترم إنسانيتهم ولو بقدر محدود، أو يعلقون في مخيّمات اللجوء في ظروف عيشٍ تنتهك كرامتهم الإنسانية، وتغتال من رؤوسهم الأحلام والطموح والمستقبل، أو يعلقون داخل حدود ما كان يعرف بالجمهورية العربية السورية، وبات اليوم كيانًا مقطّع الأوصال، ترفرف في سمائه راياتٌ من ألوانٍ عديدة، وتحكُمه سلطات أمرٍ واقع، وبالتالي، يعيشون ظروفًا متشابهة، ظروف الداخل السوري الكارثية أيضًا. تقدّر المنظمات المختصّة ومراكز الدراسات عدد المهجّرين السوريين بحوالي 13 مليون سوري، بين نازح ولاجئ، نصفهم على الأقلّ من النساء، والنصف الآخر يشكّل الأطفال غالبيته على ما يمكن استنتاجه من معدّل الولادات في تلك الأماكن.
كتب قبل بضعة أيام محافظ بعلبك الهرمل، بشير خضر، عبر حسابه على "تويتر": نسبة النازحين في محافظة بعلبك الهرمل الذين ولدوا في لبنان، أي الذين تتراوح أعمارهم بين صفر و12 سنة، تشكّل 48% من مجمل النازحين. وأضاف "تقدّمت اليوم إحدى الجمعيات بطلب الموافقة على مشروع دعم للنازحات الحوامل في بلدة واحدة بلغ عددهنّ 720 سيدة حاملا.
من يتابع حياة السوريين، إن كان في الداخل أو في الخارج، خصوصا مخيمات اللجوء، أو النازحين في لبنان واللاجئين في دول الجوار، يرى أن شكل الأسرة السورية تبدّل من حيث نسب توافره سابقًا، فازداد عدد الأسر التي فيها تعدّد زوجات بنسبة ملحوظة، كثيرًا ما رأينا في "الريبورتاجات" والتقارير منظر الأولاد المنتشرين بين الخيم، في الممرّات الترابية الموحلة في الشتاء، وكيف أن قسمًا كبيرًا ممن يشملهم استطلاع الرأي يشكون من ظروف العيش البائسة المقدّمة لهم، وهم من أسر تتألف من "كذا ولدا وأكثر من زوجة"، قد يصل عدد الزوجات إلى ثلاث أو أربع في الخيمة الواحدة، فهل هي مخرجات الحرب فقط؟ أم أنّ الأمر يعود إلى عقود سابقة لها؟
يعود الأمر إلى قرون لا إلى عقود فقط، تشكّلت فيها ثقافة جمعيّة رسّخت مفهوم الأسرة بشكلٍ يضمن كثرة الإنجاب، لدواعٍ متنوّعة، منها شروط الحياة القبلية وما يشكّل العدد من أهمية في بناء القبيلة وقوتها، ومنها أيضًا الحياة الريفية والقائمة على الزراعة والعمل في الأرض، وأهمية الولادات، خصوصا الذكور في الحالتين. وفي جميع الأحوال، كان الإنجاب أمرًا محمودًا شجّع عليه الدين، وفي الحديث النبوي الشريف "تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم".
ما حصل أنّ الدول العربية شهدت انفجارًا سكانيًّا في غالبيتها، وما زال، في ظل تفاقم الأزمات العالمية المهدّدة لحياة البشرية، ولم يواكب هذا الانفجار ما هو جدير بالاهتمام والتنظيم والترشيد، بالرغم من البنود التي تذكرها الدساتير الضامنة حقّ الأسرة من جهة، ومكوّناتها الأساسية من جهة أخرى، كحقوق المرأة والطفل.
لم يتم العمل الجدّي على تطوير الثقافة العامة، وبقي أمر الإنجاب وتكوين الأسرة متروكًا للأعراف والتقاليد والثقافات المناطقية....
ما يستدعي هذا الانشغال مرور مناسبتين في مارس/ آذار الحالي، يوم المرأة العالمي في الثامن منه، وعيد الأم في بعض الدول العربية، ومنها سورية، في 21 منه، فماذا حصّلت المرأة السورية على مدى عقود من التبجّح بشعاراتٍ تدور في فلك إنصاف المرأة ومساواتها بالرجل وعدم التمييز والعدالة الاجتماعية وتمكينها في مجالات الحياة، وفتح كل الأبواب أمامها كي تخوض تجاربها وتكون فاعلةً في حياة المجتمع بالمجمل؟ وماذا فعلت منظمة الاتحاد النسائي على مدى عقود في سورية، والتي حلّت منذ عدة سنوات بمرسوم جمهوري، بل وماذا عن تطوير قانون الأحوال الشخصية الذي يستند إلى أحكام الشريعة، وعلى الأعراف الضاربة في القدم، والضالعة في تكريس الصورة النمطية للمرأة وتأطيرها فيها؟
لم تعمل الحكومات السورية، منذ استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في انقلاب 8 مارس/ آذار 1963، وبعده ترسيخ حكم الفرد بالمطلق، باسم هذا الحزب وبالقبضة الأمنية الخانقة، على تحسين، ليس فقط واقع المرأة، بل على النهوض بالوعي تجاه قضيتها، بالرغم من منطلقاته النظرية ودستوره ولوائحه التنظيمية، ولم تحصل الأسرة على حقوقها الضامنة لأن تكون وحدة متماسكة مزدهرة قادرة على البقاء والنمو وتشكيل مجتمعٍ حي، بالرغم من كثرة الولادات، وهو لم يتطرّق إلى قضية تحديد النسل، بل يقول الدستور: "إن النسل أمانة في عنق الأسرة أوّلًا، والدولة ثانيًا، وعليهما العمل على تكثيره والعناية بصحته وتربيته"، واعتبر الزواج "واجبًا قوميًّا" وعلى الدولة "تشجيعه وتسهيله ومراقبته".
هذه منطلقات نظرية لم يتم تعديل القوانين والدساتير بخصوصها، ولم يتم العمل الجدّي أيضًا على تطوير الثقافة العامة حولها، وبقي أمر الإنجاب وتكوين الأسرة متروكًا للأعراف والتقاليد والثقافات المناطقية، ومشايخ الدين، في ظلّ العمل الدؤوب والمركز على تكريس ثقافة يتشارك فيها المجتمع والسلطة الحاكمة في إنتاج أفرادٍ مُصنّعين عقائديًّا أو إيديولوجيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، كانوا بمثابة الحقل الأكبر للاستثمار في الحروب التي وقعت، خصوصا في العقد الأخير، فكانوا حطبها، ليس في ساحات القتال فقط، وإنما في تربة المستقبل التي تبدو غير صالحة للزرع، حيث باتت الأسرة السورية منتهكةً مشلولةً عاجزة عن القيام بأعباء نفسها فكيف في بناء مجتمع مستقبلي؟
الأسرة السورية في أخطر مراحلها وظروفها، ويترافق هذا الوضع مع تردّي الوعي والنكوص إلى مستوياتٍ منه لا تتناسب مع العصر
قد يحاجج بعضهم، من المتعصّبين إلى النظام أو الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد قبل هذه العشرية، أو المدافعين عن أفكار البعث ومنطلقاته وسلطته، إن الحكومة كانت تضع الخطط وتعمل وفق برامج واعدة في مجال الرعاية الصحية، فيما يتعلّق برعاية الأم والطفل والأسرة، وكانت وزارة الصحة تعمل بدعم من منظمة الصحة العالمية بجدّ في هذا المجال، وكان هناك في كل مديرية صحة في المحافظات دائرة تختصّ بهذه الرعاية، ولديها فرق جوّالة من ضمن مهامها التثقيف الصحي، والإشارة إلى أهمية ضبط الإنجاب والاهتمام بصحة المرأة منذ ما قبل الزواج إلى فترة الزواج والحمل والإنجاب، وتقدّم وسائل منع الحمل، ورعاية الطفل أيضًا وتقديم اللقاحات، بالتعاون مع الجمعيات الأهلية وبعض الجهات المؤثّرة، والمؤسّسات العامة، كوزارة الأوقاف، وتفويض خطباء المساجد بأداء هذا الدور التوعوي.
هذا صحيح، لكن عندما نرى إلى أنها أنشطة وفعاليات تجري ضمن خيمة كبيرة وراسخة من الفساد، والترهّل، والاستسهال، واللامسؤولية، وعدم المحاسبة، فإن النتائج تؤكّد أن كلّ ما كان يُطرح من شعارات ليس أكثر من ادّعاء وتضليل، وأن واقع المرأة والطفل والأسرة كان يحمل في داخله بذورا أنتجت واقعًا أكثر قتامة، وأكثر دفعًا إلى الخوف من مستقبل هذا الشعب، فيما لو حلّت قضيته بأي طريقة. وعلى ما يبدو، لا تقدّم المؤشرات ما يوحي بأن مستقبلًا واعدًا ينتظره، بل ازداد واقع المرأة سوءًا برغم أنها دفعت الفاتورة الكبرى في هذه الحرب، وليس خافيًا ما تعرّضت له خلالها من انتهاكات لحياتها وكرامتها، ودفعها إلى بازاراتٍ رخيصة، من زواج القاصرات، إلى الحرمان من التعليم ومعظم الحقوق، إلى استفحال ظاهرة تعدّد الزوجات، وغير ذلك مما يمكن الإشارة إليه، عدا الوضع الاقتصادي المهين. الأسرة السورية في أخطر مراحلها وظروفها، ويترافق هذا الوضع مع تردّي الوعي والنكوص إلى مستوياتٍ منه لا تتناسب مع العصر واستحقاقاته لاقتناص فرص العيش فيه.