المسكوتُ عنه في حوارِ مسؤولٍ إسرائيليٍّ سابق
خصّ الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) في إسرائيل عامي أيالون صحيفة هآرتس الإسرائيلية بحوار (نُشرت ترجمته العربية في موقع الجزيرة نت الاثنين الماضي)، تطرق فيه للتداعيات المحتملة للعدوان الذي تشنّه قوات الاحتلال على قطاع غزّة. وعلى الرغم من أن ما قاله أيالون لا يختلف عما يُنشر في صحف ومواقع ومنصّات إسرائيلية بشأن آفاق المواجهة الحالية وتداعياتها على المسارات التي قد ينعطف إليها الصراع، إلا أن اللافتَ فيه إشاراتُه اللاواعيةُ إلى المأزق الذي يواجه المشروعَ الصهيوني. ويمكن عَدُّ هذه الإشارات مسكوتا عنه يستدعي التوقّف عند بعض دلالاته.
كان المسؤول الإسرائيلي السابق واضحا بشأن حدود ''النصر'' الذي قد تحققه إسرائيل على المقاومة الفلسطينية، عندما قال إنه ''حتى لو نجحت في اغتيال يحيى السّنوار، فذلك لا يدلُّ على أن الفلسطينيين سيستسلمون، وكل من يعتقد ذلك لا يعرفهم ولا يعرف حماس (...)''. ويُذكّر ما قاله أيالون بما سبق أن ذهب إليه مؤسّس الصهيونية التصحيحية زئيف جابوتنسكي قبل أكثر من 90 سنة، حين تنبأ بـ''صمود الفلسطينيين ودفاعهم عن حقّهم في تقرير المصير''، مُعتبرًا أن ''تبنّي سياسة العنف سيكون السبيل الوحيد للانتصار عليهم''. وبِوضْع ما تنبّأ به الأبُ الروحي لليمين الصهيوني قبل عقود، في ضوء ما قاله مسؤول عسكري وأمني إسرائيلي سابق بعد أكثر من 75 عاما على قيام إسرائيل، يتكشَّف المأزق الوجودي لدولة الاحتلال أمام ملحمة الصمود الفلسطيني.
وحين يقول ''ما يحدُث ليس حربا، بل حملة أخرى في الحرب المستمرّة من أجل استقلال إسرائيل''، يُدرك جيدا، مثل غيره داخل النخب الإسرائيلية، أن نهاية هذه الحرب رهينةٌ باستسلام الفلسطينيين وتنازلهم عن حقوقهم المشروعة، وهو ما أبان ''طوفان الأقصى'' والارتجاجُ الثقافي والسياسي الذي خلّفه في إسرائيل والإقليم صعوبةَ تحقُّقه، إن لم نقل استحالته. ولذلك، يُحذّر من أن ''تصبح الحرب هدفا في حد ذاته (...)، فمن دون هدف سياسي واضح من ورائها، لا يمكن للحكومة الإسرائيلية وضع استراتيجية للخروج منها''، وهو ما يعني، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، أن إسرائيل تتجه إلى فقدان سيطرتها على الحرب، بعدما وصلت إلى نقطة اللّاعودة بوقوفها عارية، أول مرّة، أمام الرأي العام الغربي، الذي يبدو أنه بدأ يتحرّر من حصار روايتها الملفقة للتاريخ والصراع وما حدث يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
يُفسِّر تحوُّلُ الحرب إلى هدف في حدّ ذاته عجزَ إسرائيل عن التحرّر من بنيتها الاستعمارية والاستيطانية، فاعتراف منظمّة التحرير الفلسطينية بها وتوقيعها اتفاق أوسلو وتقديمها تنازلات مؤلمة، ذلك كله لم يكن كافيا لتتحرّر من بنيتها هاته، وتكون شريكا في سلامٍ ينهي الصراع ويحقق الحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، وتتحوّلَ إلى دولة قادرة على التعايش مع محيطها الإقليمي. لقد قوّضت إسرائيل بإفراطها الوحشي في العنف كل فرص التوصل إلى سلام عادل مع الفلسطينيين. وكانت نتيجة ذلك، حسب أيالون، ''إضعاف السلطة الفلسطينية وتقوية حماس''، بما يعنيه ذلك من إعادة إنتاج الصراع وتدوير حلقاته تجاه مزيدٍ من الراديكالية والتصلّب الإيديولوجي والسياسي. لقد أفضى صعودُ خطاب فلسطيني جهادي ونجاحُه في الانعطاف بالصراع إلى محطة مفصلية بحجم ''طوفان الأقصى'' إلى أن تصبح حركة حماس وباقي فصائل المقاومة، حسب أيالون، ''الجهةَ الوحيدةَ التي تناضل من أجل التحرّر الوطني في نظر الفلسطينيين''، وهو ما يطرح مجدّدا أسئلة الشرعية السياسية وتقاطُباتها داخل الحركة الوطنية الفلسطينية.
في نهاية الحوار، يطرح عامي أيالون مأزق الدولة والنخب والمجتمع في إسرائيل في الاختيار بين سيناريوهيْن: حلّ الدولتين، الذي يحقق ''يهوديةَ إسرائيل وديمقراطيتها''، لكنه يتطلّب، في المقابل، تقديم تنازلات للطرف الفلسطيني، وحلٍّ ثانٍ يرهن تحقيق الأمن لإسرائيل بمواصلتها الاحتلال، ''حتى لو اقتضى الأمر خوض حربٍ لا نهاية لها''. ويبدو أن أيالون واعٍ بخطورة السيناريو الثاني، من دون أن يصرّح بذلك، لأنه يقود إلى دولةٍ واحدةٍ تفقد فيها إسرائيل، لأسباب ديموغرافية معلومة، ''هويّتها اليهودية الديمقراطية''.