المصريون في الخارج بين استراتيجية الجباية والمواطنة المنقوصة
مجدّدا طرح أحد النواب المصريين المقرّبين من النظام اقتراحاً في إحدى جلسات "الحوار الوطني" غرضه استنزاف أموال المصريين في الخارج، بإلزامهم بتحويل جزء من أجورهم إلى داخل البلاد عبر البنوك، اعتماداً على عقود العمل الخاصة بهم المودعة لدى الجهات الرسمية، وهم الذين الذين تحملوا الجهد سنوات طويلة في الغربة بعيداً عن عائلاتهم، لتحقيق مستوى معيشيٍّ مناسبٍ ومكانة أفضل لم يستطيعوا الوصول اليها في بلدهم لأسباب مختلفة.
ولم تكن تلك المرّة الأولى التي تصدُر فيها تصريحاتٌ من هذا النوع، إذ سبق وتبنّى وكيل مجلس الشيوخ، بهاء الدين أبو شقة، وآخرون، طلبا مماثلا، وهو ما يمكن أن يكون بالونة اختبار تمهيدا لإصدار تشريع بهذا المضمون. ويأتي ذلك بالتوازي مع مقترح رسمي بتأسيس ما تسمّى الشركة الاستثمارية للمصريين في الخارج، بهدف تشجيعهم على المشاركة في الاستثمار.
ويبدو أنّه بعدما فرغ جراب "الحاوي" من جباية موارد أشقائهم في الداخل، أصبح المصريون في الخارج المصدر الأهم لسد احتياجات الحكومة من النقد الأجنبي، حيث سبقت ذلك الاقتراح خطوات مختلفة، قدّمت في شكل تسهيلات تسمح لهم باستيراد سيارات معفاة من الضرائب والجمارك، ثم طُرحت قطع أراضٍ ووحدات سكنية يتم شراؤها بالعملة الأجنبية، وإصدار شهادات دولارية بعائد مرتفع بهدف جذب مخدراتهم، لكنّ مردود هذه المبادرات كان محدوداً للغاية.
ويُقدّر عدد المصريين بالخارج بـ 12 مليون شخص، تحتضن دول الخليج العدد الأكبر منهم، تليها أوروبا والولايات المتحدة. ووصلت تحويلاتهم في السنة المالية 2021 - 2022 إلى نحو 31.9 مليار دولار، لكنّها انخفضت في الربع الأول من العام المالي 2022 – 2023، ويرجع ذلك إلى سياسات الاستغناء عن كثير من العمالة المصرية في دول الخليج بأثر وباء كورونا وتخفيض أجورهم، وإحلال العمالة الوطنية محلهم.
لا تتذكر الحكومة المصرية مواطنيها في الخارج إلّا في وقت الاحتياج لمواردهم
وهكذا لا تتذكر الحكومة المصرية مواطنيها في الخارج إلّا في وقت الاحتياج لمواردهم، والتي لم يبخلوا بها في أي وقت، وفي الوقت نفسه، المساهمة في دفع فاتورة الاقتراض الباهظة بسبب مشاريع لم تمثل أولوية، ولم تسهم في الإنتاج القومي، ولا يمكن وصفها إلا بأنها مجرّد إهدار للمال العام. وعلى الرغم من تنظيم الدولة المؤتمر الرابع للمصريين في الخارج، أخيرا، بمشاركة ممثلين عن 66 رابطة وجالية، ولا نعرف معايير اختيارهم، وتأكيد رئيس الوزراء حرص الدولة على توفير سبل دعمهم ومساندتهم، وحلّ أيّ مشكلات تواجههم في دولة الإقامة أو داخل الوطن، لكنّ هذا الحديث يبدو نظرياً ويجافي الواقع المعاش، ولم يغير من حقيقة تجاهل السفارات والقنصليات شؤون المصريين في الخارج. وحتى في أوقات وباء كورونا لم تتعامل أجهزة الدولة مع أبنائها في الخارج بشكل مسؤول، بعد إعلان عودتهم إلى بلدهم لدعم أسرهم في هذا الظرف الطارئ، واشترطت عليهم المجيء على نفقتهم الخاصة ودفع مبالغ مقابل حجز المشتبه بإصابتهم في أماكن عزل يفتقر كثير منها للشروط الإنسانية والصحية. ولم تتوقف أجهزة الدولة عن القبض على بعض أقارب المقيمين في الخارج للضغط عليهم، للمساومة على مواقفهم السياسية والتي وثقتها منظمات حقوقية محلية ودولية.
ولا تتذكّر أجهزة الدولة المصريين في الخارج الا في أثناء الزيارات الرسمية للرئيس في عواصم الدول الكبرى المؤثرة في صنع القرار بتحريك عشرات من المقرّبين في تجمّعات داعمة لسياسات النظام، وهو نموذج تنفرد به الدبلوماسية المصرية. والمُشاهد أنّ هناك حالة من عدم الثقة بين النظام والمصريين في الخارج والتي تأتي لعدة أسباب، منها تجاهل قيام هذه السفارات والقنصليات بدورها في حمايتهم في بلدان الإقامة من أي تعسّف أو اعتداء بدني او انتهاك قانوني لحقوقهم، وهو ما يتّضح في حالات سابقة، ومنها ما وقع لمواطنين مصريين بإصدار أحكام قضائية بحبسهم لمجرّد تنظيمهم احتفالاً بذكرى 6 أكتوبر (حرب 1973) وحبس طبيب آخر بعد رفع دعوى قضائية يطلب مستحقاته من جهاتٍ رسميةٍ في دولة الإقامة والحالتان في السعودية.
وعندما نقارن هذا النموذج اللامبالي بتحرّك سريع للسفير اليمني في تركيا منذ أيام بخصوص واقعة اعتداء على شاب يمني في إسطنبول، وتحرّك لدى الجهات الرسمية التي تحرّكت بدورها، وأصدرت بيانا خاصا بشأن الواقعة، وقبضت على المشتبه به. وهكذا يتضح الفرق بين دبلوماسية وأخرى، بين واجب حماية الدولة مواطنيها في الخارج، وتجاهل هذا الدور باعتبار ذلك قد يفسد العلاقات مع الدولة المضيفة.
يتنامي إحساس كثيرين من المصريين في الخارج بأنّ دولتهم لا تحميهم، ولا تساعدهم حتى في أقل الاحتياجات
وفي كل الحالات السابقة، يكون رد الفعل الرسمي "أذن من طين وأخرى من عجين" حسب المثل الشهير، فلا إجراءات عملية تصبّ في صالح العاملين في الخارج؛ ولا مساعدة لهم في استخراج أوراقهم الرسمية، بالإضافة إلى زيادة الأعباء المالية للتصديق على هذه الأوراق، وسفاراتٌ كثيرة أصبحت من أذرع القبضة الأمنية الممتدة منذ سنوات، بل ترفض طلبات إصدار جوازات سفر لمواطنيها في الخارج الذين انتهت مدد صلاحية جوازات سفرهم وغيرها من الوثائق المدنية لاعتبارات أمنية في الغالب، ولأن نسبة كبيرة منهم معارضون سياسات النظام. وهو ما يتسبب في مشكلات كبيرة لهم، على صعيد حقوقهم الأخرى، مثل الحصول على الرعاية الصحية، والتعليم، والعمل؛ وحرية التنقل؛ والحق في مغادرة الوطن.
وبالرغم من أن مشكلات المصريين في الخارج تمثل أحد الموضوعات المطروحة للنقاش داخل "الحوار الوطني"، لا إشارات إلى تغيير السياسة الحالية أو حتى التخفيف منها، وهو ما يؤكّده تجاهل مبادرات سابقة بالمضمون نفسه. وذلك بالتناقض مع النص الدستوري الذي يؤكد على التزام الدولة برعاية مصالح المصريين في الخارج وحمايتهم وكفالة حقوقهم وحرياتهم، وهو ما يفرض عليها الدفاع عنهم وتحقيق مصالحهم بوصفهم مواطنين، بغض النظر عن وجهات نظرهم، موالين أو معارضين.
وتقوم الاستراتيجية الرسمية على توجّه براغماتي يقوم على استغلال مواردهم، وجذب هذه الموارد بكل الأشكال، وفي الوقت نفسه، تجاهل احتياجاتهم في دول المهجر ومنها العودة لزيارة أسرهم بسبب المخاوف من القبض عليهم، كما حدث مع عشرات من الباحثين المصريين الذين يدرسون في الخارج، وصدرت عليهم أحكام استثنائية بالسجن بسبب آرائهم.
المؤكّد أن ما تقوم به أجهزة الدولة المصرية المختلفة ووزاراتها لا يؤدّي إلى بناء علاقة إيجابية بين الطرفين، خصوصا مع شكوك تنتاب المقيمين في الخارج بسبب أداء تلك الأجهزة. وتنامي إحساس كثيرين منهم بأن دولتهم لا تحميهم، ولا تساعدهم حتى في أقل الاحتياجات المفترض أن تقوم بها أي سفارة أو قنصلية في دولة أخرى. ولا تنظر إليهم إلّا لحلب مزيد من أموالهم، وسيستمرّ هذا الانطباع ما لم تتغيّر تلك الممارسات السلبية الحالية.