المعادلة تغيّرت على جبهة لبنان

18 سبتمبر 2024

لبناني يتفقد مبان مهدمّة بعد غارة إسرائيلية جنوب بيروت (17/8/2024 الأناضول)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

منذ فتح حزب الله جبهة الجنوب ضد إسرائيل في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أرسيت معادلة تفسّر عدم تحوّل الحرب إلى شاملة. اخترع الطرفان قواعد اشتباك هي في الآن نفسه متحركة ومضبوطة، وإن كانت مختلة اختلالاً فادحاً لمصلحة الدولة العبرية. صدق من قال في أول أسابيع الحرب إنه في السابق، لو أطلق حزب الله رصاصة على الجهة الأخرى من الحدود، لكان ذلك كافياً لتل أبيب لتشن حرباً شاملة على غرار حرب تموز 2006. قبلت إسرائيل قواعد الاشتباك الجديدة على مضض لانشغالها بحرب غزة ولعلمها بقدرات حزب الله الحربية المتعاظمة، لكنها قررت استنزافه ومسحَ بالتدرج تلك المنطقة التي تريد منه أن يغادرها جنوبي نهر الليطاني لكي تكون بمثابة منطقة عازلة بعرض عشرة إلى 15 كيلومتراً من الحدود. بعد مرور 11 شهراً على الحرب تلك، يبدو الفارق في الخسارة هائلاً: عشرات القرى اللبنانية دُمّرت على امتداد 120 كيلومتراً من الحدود، في مقابل ضرر متوسط إلى خفيف في بضعة مستوطنات إسرائيلية. 440 قتيلاً سقطوا من حزب الله بينهم عشرات من كبار قادته ومن كان بمثابة قائد جيشه، فؤاد شكر، في مقابل 20 قتيلاً عسكرياً في إسرائيل، أي بمعدل قتيل إسرائيلي واحد مقابل 22 لحزب الله. أما في ما يخص المدنيين، فـمائة قتيل في لبنان (بينهم العديد من السوريين) مقابل نحو عشرة في إسرائيل. عدد المهجّرين اللبنانيين يناهز الـ150 ألفاً، أما في إسرائيل فهو يراوح بين 60 ألفاً و120 ألفاً يقيمون في فنادق. أما عسكرياً، فاغتيالات إسرائيل تصيب أهدافها في ثلاث محافظات، جبل لبنان (الضاحية الجنوبية لبيروت وإقليم الخروب) والبقاع والجنوب، بينما قصف حزب الله لم يتجاوز الجليل.

كان يُقال إن الطرفين لا يريدان حرباً شاملة لن تندلع إلا إن حصل خطأ جسيم في الحسابات العسكرية، وقد أظهرت الأيام كم أن ذلك كان صحيحاً. قيل عن حق أيضاً على الأرجح إن اتفاقاً لترسيم الحدود البرية أنجزه الأميركيون على غرار اتفاق الحدود البحرية (2022)، وينتظر انتهاء حرب غزة ومن ثم معركة لبنان للتوقيع عليه. لكن الصحيح أيضاً اليوم أن أموراً كثيرة تغيرت وباتت تقرّبنا من حرب شاملة على لبنان: الضغط الأميركي على إسرائيل لإبرام اتفاق غزة ولعدم توسيع الحرب في المنطقة، أقرب إلى التمني الأخوي المرفق ببوارج أميركية وحاملات طائرات وغواصات مهمتها خوض الحرب لمصلحة تل أبيب دفاعاً وهجوماً. اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر أظهر مدى ضعف المحور المقابل، إيران وحزب الله وكم أنه مخترق، وقد أعطى دفعة معنوية سياسية وعسكرية هائلة لساسة الدولة العبرية وجنرالاتها. رد حزب الله في 25 أغسطس/آب كان مجازياً، أما رد إيران المزلزل فأكبر من أن يُذكر في هذه العجالة. بنيامين نتنياهو يعيش أفضل أيامه سياسياً، وقد استعاد شعبيته في استطلاعات الرأي ويدعمه مجتمع قلّما كانت حماسته لتوسيع الحرب مثلما هي اليوم، وقد زادته الحرب على الضفة الغربية دمويةً. فوق ذلك، يدرك الرجل أن الفرصة لن تتكرر، وهو مطمئن إلى أن انتظار رد فعل عربيٍّ رسميٍّ حقيقيٍّ ضد حروبه هو كأمل إبليس في الجنة، وأن القصف الإيراني سيظل لفظياً. في المقابل، الأميركيون عاجزون عن الضغط على نتنياهو أو أنهم غير راغبين في ذلك، والضغط الدولي على إسرائيل استهلك نفسه وتلاشى. النتيجة أن سكان الجليل الأعلى لن يعودوا إلى مناطق إقامتهم إلا على ظهر الدبابة، ويوآف غالانت صار يزايد على نتنياهو حماسةً لحرب شاملة ضد لبنان بهدف الحفاظ على منصبه وعدم استبداله بجدعون ساعر بعدما كان يشترط إنجاز اتفاق غزة قبل أن يوقّع على أمر الهجوم شمالاً.

ليس هناك من يربط الوحش الإسرائيلي، بينما العمى الأيديولوجي الذي يتغذى من غيبيات أعدائه يمنعهم من فهم أن الحروب ليست بالشعارات وبإنزال اللعنات ولا بالصلوات وبتكرار مصطلح العدو الصهيوني أربعين مرة في سطرين، إنما هي موازين قوى وحلفاء وقدرات وتكنولوجيا وذكاء اصطناعي وسلاح جوي وبحري وبنى تحتية متطورة وملاجئ وكفاءات وتدريب ومناورات واقتصاد قوي ودول متماسكة.