المغاربة في غلاء المعيشة وضنك العيش
تعهد رئيس الحكومة المغربية الحالي، رئيس حزب التجمّع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، في أثناء الحملة لانتخابات أكتوبر 2021، كسائر رؤساء الأحزاب المتنافسة الأخرى في مناسبة كهذه، حيث تشيع المزايدة السياسية، بتحسين ظروف عيش المغاربة، وأعطى في ذلك أغلظ العهود والمواثيق. وكان هذا حال وعد وزير العدل الحالي، رئيس حزب الأصالة والمعاصرة، عبد اللطيف وهبي، إذ أطلق ما وعد به زميله، وكأنهما اتفقا على برنامج واحد وتقدّما للدعاية له بلونين مختلفين، هذا بلون الحمامة، وذاك بلون الجرّار. إلا أن وزير العدل زايد أكثر على زميله، وقال، بلهجة مانعة قاطعة، إن الجرّار لن يتحالف مع الحمامة، مهما كانت النتائج، سيما وأنه كان قد انتقده انتقادا لاذعا، وحمّله مسؤولية السطو على 17 مليار درهم (حوالي 1.7 مليار دولار) جهارا نهارا نتيجة أرباحه من ارتفاع المحروقات، علما أنه رئيس شركة كبيرة لبيع مشتقات المحروقات ومالك محطّات عديدة لبيع البنزين، أي أنه جامع للمال وللسلطة في آن واحد، وهو ما يتنافى إطلاقا مع الحكامة الرشيدة.
وبما أن جل السياسيين يعملون بمبدأ كلام الليل يمحوه النهار، فإن حزبي السلطة الكبيرين المتنافسين تحالفا مع حزب الاستقلال، الحاضن التاريخي للحركة الوطنية التي حقّقت مطلب الاستقلال، كأن شيئا لم يكن، ورفع رؤساؤه يمناهم المتشابكة إلى السماء ببسماتٍ عريضةٍ عنوانا للنصر المبين، وذلك بعدما سقط حزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية المحافظة سقطة صخرةٍ ضخمةٍ تدحرجت من قمة جبلٍ إلى سفحه، حين جاءت به رياح الربيع العربي كفاتح مغوار يجرّ من ورائه أسرابا من الأحلام اللذيذة والأماني العِذاب لشعبٍ محبط جرّب جميع وصفات الأحزاب، فلم يجد له عندها دواء، معتقدا أن الخلاص لن يكون إلا على يد من قدموا يحملون "راية الإسلام" شعارا لهم. غير أنهم وبعد أن مكثوا في الحكومة (لا الحكم) عشرة أعوام عجاف، خرجوا خفافا وقد خيّبوا الظنون، وشدّوا من عضد اليأس في المجتمع، سيما بعد أن اجتهدوا في تحقيق أسوأ الموبقات، التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي و"تحرير" أسعار المحروقات ليزيدوا من اشتكى من ظلم الفيل فيلة.
انغلقت الأبواب على الشعب من كل جهة، حيث اشتعلت أسعار المحروقات لتصل إلى حدود لم يعرفها المغرب
وحين استتبّ الأمر لرجل الأعمال، وصاحب أكبر شركة لبيع المحروقات في المغرب، وجرى إسقاطه على السياسة بمظلة أهل القرار النافذة، وهو من كان المغاربة قد قاطعوا بضاعته ثلاث سنوات، فوعد أن يعيد تربيتهم، حسب زعمه، انغلقت الأبواب على الشعب من كل جهة، حيث اشتعلت أسعار المحروقات لتصل إلى حدود لم يعرفها المغرب حتى في أسوأ عهوده، حيث صار سعر اللتر الواحد أعلى من نظيره في جميع الدول العربية والأفريقية والعالم الثالث، وأصبح ثمن الخضروات والقطاني (البقوليات) والأسماك الرخيصة التي كانت مصدر قوت المساكين متأجّجا، أما أثمان اللحوم فقد ضرب جل الغلابة من الناس عنها صفحا، لأنها أصبحت فوق متناولهم. وقد جاهدت الحكومة لتجميع التبريرات، في محاولةٍ للإجابة عن سبب هذا الغلاء الفاحش، وذلك بعد فترة طويلة من الصمت المريب، تصرّفت فيه أولا، وكأن الأمر لا يعنيها في شيء، ما جعل الناس يتوجّهون قصدا إلى الملك، ليناشدوه عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالتدخّل فورا لتوقيف النزيف. ثم خرجت عن صمتها، وأخذت تعزو سبب الارتفاع المهول للأسعار إلى المناخ الدولي المتأزّم والمتمثل في الحرب الروسية الأوكرانية، وإلى جائحة كورونا وموجة الجفاف التي ضربت البلد في السنين الأخيرة.
لم يقنع المغاربة ذلك أو يطفئ غضبهم، بعدما ظلت أجور الموظفين في تدنيها، ولم تأخذ هذه الحكومة من المبادرات الجدّية ما يخفّف من وطـأة الطوق المشدود على أعناق الناس، بحيث إن البنك الدولي صرّح بأن معدل الفقر في المغرب ارتفع بـ2,1 نقطة مئوية في العام الماضي بسبب التضخّم الذي بلغ 6,6%، وهو أعلى مستوى تسجّله البلاد منذ ثلاثة عقود، فكانت النتيجة الحتمية أن أخذ الغليان يطفو رويدا رويدا في الشارع على شكل تجمّعات مندّدة هنا وهناك إلى أن تحرّكت المسيرات الاحتجاجية للأحزاب والنقابات اليسارية، التي طالما رفعت شعار الفصل بين المال والسلطة التي عانى منها المغاربة ارتفاعا في الأسعار وأهوالا من البؤس والحرمان. لذا لم يكن غريبا أن يجعل ابن خلدون، قبل ثمانية قرون أو يزيد، من الغلاء وارتفاع الأسعار من أسباب سقوط الدول وانهيار المجتمعات وتشتتها.
تنتظر الفئات الشعبية مبادرة لرفع الإرهاق عنها حتى لا يصل المغرب إلى ما لا تُحمد عقباه
ويكاد الكل يجمع على أن المغرب يعيش في ظلال أزمة خانقة جعلت الناس يدورون كالحمقى في أسواق الخضروات، لا تمتد أياديهم إلى أيٍّ منها وكأن فيها عقارب وعقارب متأهبة للدغ. وهي الوضعية التي دفعت قطاعات واسعة من الشعب إلى استخدام سلاح النكتة، كعادة كل الشعوب حين يشتد عليها الهمّ ويقهرها شظف العيش، باعتبارها وسيلةً لتخفيف الكبت الذي يؤرّقها. وليس أحسن من مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة لتصريف ذاك المكبوت المؤرّق، عملا بمقولة إن المصائب إذا عمت هانت.
تنتظر الفئات الشعبية مبادرة لرفع الإرهاق عنها حتى لا يصل المغرب إلى ما لا تُحمد عقباه، خصوصا أنه بين فكّي كماشة؛ أوضاع اجتماعية متفجّرة في الداخل، حيث اشتعال الأسعار على جميع الجبهات، وفي الخارج تأزّم للعلاقة مع الاتحاد الأوروبي. فكيف سيكون غدنا القريب يا تُرى؟