المغاربيون و"الشرخ الوبائي": الدولة شرطاً صحياً
تنطلق في عموم دول المعمورة موجة التلقيح الأولى قريباً، بعد أن تزحلقت أقدار البشرية على موجتين أو ثلاث من وباء كوفيد – 19، والذي ظل نفس الكرة الأرضية مشدودا إلى إعلان اكتشاف لقاح مضاد له. وقليلة هي الدول العربية، (سيما دول شمال أفريقيا التي تهم هذه المقالة)، التي أعلنت انخراطها في السباق الدولي الطبي، لا كمشاركة في المجهود العلمي غير المسبوق، بل ككيان بشري – سياسي – ترابي، يمكنه أن يشارك في التجارب، ثم في الإنتاج، وأخيرا في تلقيح ساكنته، حسب جدول زمني معلن منذ الآن. وهكذا، نجدنا معفيين من نقاشٍ يحدّد أولويات أنظمة كثيرة في العالم وهوياتها، ومن الدخول في تفاصيل بناء عالم ما بعد الوباء، (الاشتقاق الاصطلاحي الجميل يتحدث عن جيو- استراتيجية كوفيد - 19).
يبدو اللقاح ضمانة لعشرات الملايين من الجزائريين، وامتحانا تدبيريا يواجه دولةً لا يبدو أنها تملك القدرة الكاملة لتجعله أولويةً على ما عداها من عناصر القلق الحارقة
لدينا بلدان مصابة، فهل يمكن القول إن لدينا دولا في مستوى وضع سلم أولويات في معالجة الإصابة التي لم تستطع أي دولة أن تجعل لنفسها رياضياتٍ خاصة يمكنها تقزيم الأرقام المهولة التي تغطي الكرة الأرضية؟ يصعب الجواب بالإيجاب في قلب المغرب الكبير وشمال أفريقيا. الجزائر التي لم تستطع أن تقدم خبرا، مجرد خبر، عن رئيسٍ منتخب حديثا، غاب عن دستور "الجزائر الجديدة"، يوجد في دولة ألمانيا للعلاج من كوفيد - 19، وهو خبرٌ ثمنه الصورة الإجمالية عن الدولة نفسها، فهذه دولة بمساحة لا تُضاهى، وتاريخ حديث يكفي لصناعة كيان قوي، وموارد طبيعية لا تتوفر لغيرها في المنطقة، لا تستطيع أن تجد حجّة وجود بين الفراغ والشك الذاتي. ومن مكر التماهي أن البلد برمّته مصاب بألم دولته ورئيسها، بلد أضاف إلى شكوك المستقبل العجز عن تحديد زمن ميلاد الدولة الجديدة التي وعد بها الدستور الجديد والذي لم يستطع الرئيس المريض المشاركة فيه بانبثاقها في مرحلة ما بعد حراكٍ دام سنة، حراك يبدو معلقا، لكنه "يبيت" في رماد سياسي قد يكون تعبيره الأساسي المغادرة الطوعية لما يقارب 80% من الناخبين الجزائريين صناديق الاقتراع... يبدو اللقاح هنا، وضمانة لعشرات الملايين من الجزائريين، امتحانا تدبيريا يواجه دولةً لا يبدو أنها تملك القدرة الكاملة، سياسيا وديمقراطيا وتنفيذيا، لتجعله أولويةً على ما عداها من عناصر القلق الحارقة.
في ليبيا، ما زالت الدولة ترحل من منتدىً إلى آخر، ومن مطار إلى آخر، دولة – كيان، تنتظر ميلاد الدولة – الجهاز! هناك حربٌ نائمة، تنتظر اتفاق لاعبين كثر في المنطقة، على أجندة خاصة بالليبيين، لا أجندات الصراع الإقليمي في حوض المتوسط وشمال أفريقيا. وما يزيد في قوة الشرخ الوبائي أن تسمح الحرب التي تهدّد بالعودة في كل حين، والشهيات الجيو استراتيجية للمتصارعين وحسابات الشرق وأوروبا، أن يعد الليبيون مرضاهم وعدد الجرعات الأولوية ولوجستيك نقل اللقاحات إلى أهلها. ولم تكن الدولة شرطا طبيا لمواجهة جائحة، كما هو الأمر اليوم!
في ليبيا، ما زالت الدولة ترحل من منتدىً إلى آخر، ومن مطار إلى آخر، دولة – كيان، تنتظر ميلاد الدولة – الجهاز!
الوضع معقد ولا شك، والأمر يشترط الوحدة في وجود الدولة، لكي تتحرّك كما يفترض فيها. و"الكل لا يعني مجموع الأجزاء" في الحالة التي تلي الحروب الأهلية، وبإشكال أكبر عندما يكون العنصر "القبلي أو الطائفي أو الإثني"، هو عصب الحرب، ووحدته هي عصب السلام، فالدولة أكبر من عملية جمع الأطراف المتناحرة، سيما في الوضع الوبائي الحالي الذي تعجز فيه دولٌ ذات تاريخ أقدم في الوحدة على إيجاد الجواب المقنع في التعامل مع الوباء وما يفترضه التلقيح.
يتجاوز الشرخ الوبائي الفروق بين الدولة الغنية والدولة الفقيرة، كما يتجاوز الفرق بين الدول المستقرّة والأخرى غير المستقرة. إنه يضم، أيضا، في شبكة اتساعه، الدول التي حقّقت نوعا من الاستقرار الماكرو سياسي، كحالة تونس، لكنها تواجه، في حالة الوباء الخاصة بها، "لا يقينا" انتقاليا عميقا، يهّدد الدول المنبثقة من دستورٍ ودولةٍ هما وليدا الثورة. والواضح أن المجال العمومي تطور إلى إيقاع معادلة التناقضات السياسية، من جهة، والوقائع الوبائية التي تهزّ البلاد، إضافة إلى جبهة الإرهاب والعنف، واختناقات الأزمة الليبية، من جهة ثانية.
يتجاوز الشرخ الوبائي الفروق بين الدولة الغنية والدولة الفقيرة، كما يتجاوز الفرق بين الدول المستقرّة والأخرى غير المستقرة
على مستوى موجة التلقيح طلبت تونس خمسة ملايين جرعة، بدون تحديد نوعيتها ولا تدبيرها (حسب الصحافة التونسية)، ابتداء من الفصل الأول لسنة 2021 حسب شكري حمودة، من الهيئة الوطنية الصحية، والذي لم يقدم أجندة زمنية أو تنفيذية لحملة التلقيح. والواضح أن هناك توازيا تونسيا بين التردّد والتلقيح ووضوح أجندته والتردّد السياسي، في الانتقال إلى استقرار مؤسساتي، يكشف القدرة على تدبير الأزمات، حسب الأجندة الدولية العامة، أو هو قد يفسّر بأنه نوع من "اللايقين الانتقالي" الذي جعل الأجندة نوعا ما غير استعجالية. والسبب هو النخبة التي لم تستطع أن تحوّل انشغال الناس إلى أولوية، ما جعلها نخبةً صنعت البديل، من دون أن تصبح نخبة بديلة لما سبقها، على الرغم من النضج الديمقراطي العام للدولة.
ويتزامن تحدّي التلقيح في المغرب، تزامنا قاسيا، مع موضوع الوحدة الترابية، وجديد فصولها الكركرات. وعلى الرغم من استباقية الدولة المغربية في التصدّي للوباء منذ بدايته (استباقية في تفعيل البروتوكول الصحي، ثم الإعلان عن الأجندة الزمنية الدقيقة في القيام بحملة التلقيح)، فإن كل القضايا الصعبة ما زالت على أجندة الدولة المغربية، ومنها الانفصال والإرهاب، حيث لم توقف فقرات التوتر في جنوب المغرب، مع كل التصعيد الذي تقوده جارة المغرب الشرقية، مواصلة المتطرّفين محاولاتهم في تفجير الوضع. وفي خضم تفاعل هذه الثلاثية في الوعي الجماعي والشعور المشترك لدى المغاربة، يظهر تدنّي العقل السياسي لدى جزء من الوجوه العامة، كما هو أحد رجالات العهد القديم الذي اجتمعت في قصته مواضيع "الجنس والفيديو، والمخابرات"، أراد أن يكون فيها "دونكيشوتا جديدا"، بشكلٍ يثير الشفقة، أو انشغالات نخبٍ أخرى، بوضعها الذاتي ومصيرها الحصري، ربما يشي بطغيان الاستراتيجيات الفردية على هوْل الانشغالات الجماعية الكبرى. وإنْ كان لهذا من جانب إيجابي، فذلك هو الثقة التي ارتفعت إزاء مؤسسات الدولة، وتراجعت إزاء تعابير المجتمع.
على مستوى موجة التلقيح طلبت تونس خمسة ملايين جرعة، بدون تحديد نوعيتها ابتداء من الفصل الأول لسنة 2021
هذه المواجهة الفردية، كما تعيشها أربعة كيانات كبرى في المغرب الكبير وشمال أفريقيا، أجبرتها الجغرافية والتاريخ ومشروع بناء الدول المستقلة على التعايش زمنيا ومكانيا، تشكو في العمق من غياب رؤيةٍ موحّدة تسير بها إلى جوابٍ جماعيٍّ على ما يتفاعل في إقليمها الأورومتوسطي والشمال أفريقي، وكانت فرصة التصدّي الجماعي للوباء، في فصل التلقيح، مناسبةً لاستدراك التأخر في هذا الباب وفي غيره. وتكفي مقارنة الأوضاع في المنطقة بتدابير الكتلة الأوروبية للوباء ولحملات التلقيح والمضاعفات الاقتصادية الآنية والمقبلة.
كان من الممكن، في هذا الخريف الاقتصادي، أن تجد دول المغرب الكبير، التي نجحت على الأقل، أكثر قوةً وأقلّ هشاشةً وارتباكا، وأكثر قدرة على توحيد جهودها، بتكسير قانون الأمر الواقع الذي طال أكثر من اللازم، ودخول معترك الاقتصاد العام، بمختبراته التكنولوجية والعلمية والمعرفية التي تعد فضاءات لخلق العالم المقبل.
العجز الذي يسجله غياب التعاون المغاربي، اليوم، يتضاعف بالخسارات المهولة التي كلفتها آثار كوفيد المستجد
وأحد الآثار الدائمة لكوفيد 19 ما بعد اللقاح أن دولا مغاربية ستحتفظ بعلاقاتها مع الجوارين، القريب والبعيد، بعد هذا الوباء. وربما لن تلتفت إلى كل ما سيتغير في مفهوم الدولة وأدوارها وطبيعة علاقاتها الجيو استراتيجية، بسبب غياب أفق الانتقال الديمقراطي أو تعثره، أو ببساطة بسبب قدرتها الفائقة على البقاء كما هي على الرغم من الوباء، ولو اقتضى ذلك الخروج من المستقبل! ولعل كلمة اللامغرب (Non maghreb) تتضح أكثر هنا في معالجة كل القضايا الاستعجالية، استراتيجيا ومرحليا، من الحروب الأهلية إلى نجاعة المؤسسات والتمرّد الجماعي والفردي والوباء والإرهاب، على ضوء التفكك والصعوبة الاقتصاديين، حيث إن العجز الذي يسجله غياب التعاون المغاربي اليوم، يتضاعف بالخسارات المهولة التي كلفتها آثار كوفيد المستجد، وقد قرّرت المواجهة المتفرقة لمشكلة جماعية، علما أن ناتجها الداخلي الخام مجتمعة لا يفوق 367 مليار دولار. (2019 بدون أزمة!)، وهو ما يعادل ناتج هونغ كونغ وحدها، مع فارق هائل في عدد السكان (102 مليون نسمة مقابل 7 ملايين نسمة!).
الطابع المادي والصحي للتلقيح لا يغيب طابعه الاستعاري: تلقيح دول هشّة، مع الفارق في الطبيعة والدرجة بوعي جماعي للخروج من وضع غير مقبول في حاضر الأزمة وفي مستقبل العالم.