المغرب بين الفرنسية والإنكليزية
هل هي مصادفة أن يتزامن قرارُ الحكومة المغربية تعميم الإنكليزية في التعليم الإعدادي، انطلاقاً من الموسم الدراسي المقبل، مع مخرجات الاجتماع الذي عقده وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، شكيب بن موسى، مطلع الأسبوع الجاري في مدريد، مع نظيرته الإسبانية بشأن اعتماد الإسبانية في الشُّعب العلمية؟
يصعب الجزم بأن ذلك كان مصادفة، في ضوء التوتر الذي تشهده العلاقات المغربية والفرنسية، على خلفية تباين وجهات نظر الطرفين بشأن عدة ملفات إقليمية، في مقدمتها قضية الصحراء، بما تمثله من أهمية استراتيجية للمغرب. من هنا، يُشكّل الإعلان عن مشروع تعميم تدريس المواد العلمية بالإنكليزية ضربة موجعة لفرنسا التي لطالما وظّفت لغتها وثقافتها من أجل ضمان استمرار نفوذها الثقافي والاقتصادي والسياسي في مستعمراتها السابقة، وبالأخص في هذا التوقيت الذي يشهد فيه هذا النفوذ انحساراً واضحاً في جنوب الصحراء ومنطقة الساحل. ومؤكّد أن قراراً بهذه الجرأة لن يُرضي فرنسا، لأنها تدرك جيداً تداعياته الثقافية والاقتصادية على مصالحها.
من ناحية أخرى، يعكس قرار اعتماد اللغتين الإنكليزية والإسبانية طوْراً آخر في المشكلة اللغوية في المغرب، باعتبارها عائقاً أمام تحقيق التنمية البشرية المنشودة، بسبب خلط الأوراق المستمر بين قضايا التعليم واللغة والثقافة والهوية، وغياب رؤية واضحة لإدارة هذه القضايا بعيداً عن الحسابات السياسية، فالفرنسية، التي لطالما تمتّعت بحظوة سياسية وثقافية لدى النخب المغربية، تواجه اليوم انحساراً، لا سيما في معاقلها التقليدية داخل الإدارة والإعلام والاقتصاد والمال والأعمال، في وقتٍ تحظى فيه لغات أخرى (الإنكليزية، الإسبانية، الألمانية، الصينية..) باهتمام شرائح واسعة من الطبقة الوسطى التي تتطلّع إلى تأمين مستقبل مهني أفضل لأبنائها، في ظل التحوّل العميق الذي تشهده أسواق العمل في العالم. ويمكن القول إن هذا الوضع جعل الفرنسية في قلب الصراع المجتمعي الذي يتواجه فيه الإسلاميون، بمختلف أطيافهم الفكرية والسياسية، والنخبُ الفرنكوفونية على اختلاف تنويعاتها الليبرالية واليسارية والعلمانية. يجد هذا الصراع جذوره، بشكل أو بآخر، في سياسة التعريب التي انتهجتها الحكومات المغربية عقوداً، والتي كانت تتوخى، من خلالها، إعادةَ التوازن إلى ''حقل السلطة المضادّة'' بتوسيع هامش الحركة أمام قطاع عريض من الحركة الإسلامية، في مواجهة اليسار الراديكالي والإصلاحي. صحيحٌ أن هذه السياسة عزّزت مواقع المحافظين داخل المجتمع، لكنها أخفقت في الحدّ من نفوذ الفرنسية التي بقيت تتمتع بحظوة لدى النخبة السياسية التي كانت بعض مكوّناتها تقف، بشكلٍ لا يخلو من مفارقة، خلف كثير من حلقات هذه السياسة.
وعلى الرغم من حزمة التشريعات والقوانين التي صدرت، في السنوات الماضية، بهدف إعادة النظر في منظومة التربية والتكوين، إلا أن ذلك لم يحل دون تفاقم المشكلة اللغوية وتزايد تعقيداتها بسبب ارتباطها البنيوي بأعطاب هذه المنظومة. ولا يُتوقّع، والحالة هذه، أن يُفضي استبدالُ الفرنسية بالإنكليزية والإسبانية في تدريس الشعب العلمية إلى نتائج ملموسة، من دون الانخراط في إصلاح شامل لهذه المنظومة، ينطلق، بالضرورة، من الوعي بتكلفته السياسية والاستعداد لتحمّلها.
تقديمُ الحسابات الأيديولوجية والسياسية في معالجة المشكلة اللغوية في المغرب يفاقمها أكثر، ذلك أن تبنّي لغة معينة في التعليم لا ينبغي أن ينطلق فقط من قدراتها الفكرية والعلمية والتكنولوجية، بل أيضاً من ضرورة الوعي بمآزق توظيفها في بيئاتٍ غير مؤهلة تربوياً وثقافياً. ولا شك في أنّ المرور إلى السرعة القصوى في استبدال الفرنسية بالإنكليزية قد يُفرز تداعياتٍ نحن في غنى عنها، ذلك أن إدارة تكاليف هذا الانتقال اللغوي المفاجئ تتطلّب معرفة الإمكانات البشرية واللوجستية المتوفرة والشروط التي يتطلبها اعتماد الإنكليزية وتعميمها في مختلف مراحل التعليم. فالأوْلى حالياً التوسُّل بمشروع وطني متكامل لإصلاح منظومة التربية والتكوين التي باتت وظيفتها تنحصر، أو تكاد، في محو الأمية أمام عجزها عن تجاوز أعطابها المزمنة.