المغرب وإسبانيا .. صراع بلا سلاح
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
تعرف العلاقات المغربية الإسبانية، منذ قرابة السنة، أزمة صامتة، ظهرت إلى العلن، في الآونة الأخيرة، بعد قرار تأجيل القمة الرفيعة المستوى، بين الرباط ومدريد، في دورتها 12، والتي كان منتظرا أن تعقد في 17 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، حتى شهر فبراير/ شباط المقبل. ومن شأن هذا التأجيل المفاجئ أن يزيد من تأزيم العلاقات بين البلدين، وخصوصا أن آخر قمة، في مسار هذا التقليد الذي انطلق أواسط تسعينيات القرن الماضي، بعد توقيع معاهدة الصداقة، تعود إلى عام 2015.
برّر البيان المشترك قرار تأجيل القمة بالوضعية الوبائية الراهنة لفيروس كورونا. لكن أحاديث الكواليس تفيد بأن الطلب جاء من جانب الرباط، حتى لا تقع الدبلوماسية المغربية في تناقض مع ذاتها. إذ لا يعقل أن تحصل على اعتراف أميركي، يُقِر بمغربية الصحراء، قبل أسبوع من تاريخ القمة، ثم يصدر بيان بعد انعقادها، يتضمن في حيثياته؛ تماشيا مع موقف مدريد المتأرجح من النزاع، دعوة إلى حل عادل وشامل لنزاع الصحراء، وفق مقتضيات الشرعية الدولية.
سياسة الرباط غضّ الطرف عن الملفات الخلافية مع إسبانيا أوشكت على نهايتها
يذكر أن الدبلوماسية الإسبانية؛ بحكم مصالحها واستعمارها السابق للمنطقة، اعتبرت، على لسان وزيرة خارجيتها، أن القرار الأميركي بهذه الطريقة، يدفع نحو مزيد من التعقيد، ولا يخدم مطلقا نزاع الصحراء، لأنه قائم على القطبية الأحادية؛ بينما يفرض النزاع البحث عن حل توافقي، تشارك فيه مختلف الأطراف؛ الدولية والإقليمية، ذات الصلة بموضوع الصحراء.
تدرك إسبانيا التي أدارت، طوال العقد الماضي، علاقاتٍ نموذجية، على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، مع المغرب؛ حليفها الاستراتيجي الجنوبي وثاني شريك تجاري خارج الاتحاد الأوروبي، وفق منطق "الجوار الحذر"، أن سياسة الرباط غضّ الطرف عن الملفات الخلافية أوشكت على نهايتها. فمكاسب الدبلوماسية الناعمة، في السنوات الأخيرة، شجعت المغرب على مطالبة حلفائه بمواقف واضحة. وكان هذا مضمون رسالة غير مباشرة، بعثها وزير الخارجية المغربية إلى مدريد حين صرّح إن المغرب لم يعد يستسيغ المواقف الجافة، ولن يقبل مستقبلا من الدول الحديث عن حلٍّ عادل ودائم.
أربك الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، أوراق لعب الدبلوماسية الأسبانية التي تخوض، منذ حوالي سنتين، حربا هجينا ضد نظيرتها المغربية. وبدأت أطوارها بقرار المغرب، الأحادي الجانب، إغلاق حدوده الشمالية مع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، لوقف ظاهرة تهريب السلع والبضائع. وكانت جائحة كورونا بمثابة العذر المثالي لإحكام إغلاق المعابر البرّية وخنق الخطوط البحرية، ما جعل المدينتين تحت الحصار الاقتصادي، وانعكس على حركة المرور والأعمال التجارية في الجزيرة الخضراء.
المملكة لن تقوم بمهمة شرطي أو دركي القارة الأوروبية
تطور السجال حول سبتة ومليلية الخاضعتين للنفوذ الإسباني، منذ عام 1497، على الرغم من وجودهما في أقصى الشمال المغربي، إلى حربٍ كلامية بين الطرفين. أعقبت جواب رئيس الحكومة، في مقابلةٍ مع قناة تلفزيونية، عن سؤال مقايضة الصحراء بالمدينتين المحتلتين، بإمكانية "فتح الملف (سبتة ومليلية) في يوم ما". توالت الردود من مدريد على كلام رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، فقد اعتبرت الخارجية الإسبانية الأمر اعتداء على سيادة أراضي المملكة الإسبانية ووحدتها، واستهجنت الأحزاب السياسية بدورها، استهداف المغرب للوجود الإسباني، في القارّة الأفريقية.
يشار إلى أن الدوائر الرسمية الإسبانية قد امتعضت بشدّة من المغرب، بداية العام الماضي، حين قرّر بشكل أحادي، ترسيم الحدود البحرية، وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة. مع ما يعنيه ذلك من بسط للسيطرة والسيادة على كل المجال البحري، في الأقاليم الجنوبية، لأول مرة منذ الاستقلال، وشمول لاتفاقية الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي لمياه الصحراء.
وقد وظّف المغرب، علاوة على مسألة الحدود، ورقة الهجرة غير الشرعية بذكاء، في هذه المعركة الدبلوماسية. وكان افتتاح المرصد الأفريقي للهجرة في العاصمة الرباط فرصةً أكّد فيها الناطق باسم الدبلوماسية المغربية أن المملكة لن تقوم بمهمة شرطي أو دركي القارة الأوروبية، وذلك ردا على أحاديث متداولة في الصحافة الإسبانية، تتهم الرباط؛ تصريحا أو تلميحا، بالموافقة على تدفق سيلٍ من المهاجرين غير الشرعيين، بلغ تعداده 20 ألف مهاجر خلال شهرين إلى أرخبيل جزر الكناري.
إسبانيا تعيش عملية تحوّل معقدة من نظام الثنائية الحزبية (اليمين واليسار) نحو نظام حكومة متعدّدة الأحزاب
يحمل قرار تأجيل القمة رسالة إلى الداخل الإسباني، وتحديدا بابلو إغليسياس زعيم حزب بوديموس الذي استفز المغرب أكثر من مرة، منذ توليه منصب النائب الثاني لرئيس الوزراء، فقد علق على أزمة الكركرات بالانحياز لجبهة بوليساريو، ودعا إلى تنظيم استفتاءٍ في الصحراء. ناهيك عن مطالبته باستمرار تعيين مبعوث أوروبي إلى الصحراء. واستقبل رفيقه في الحزب، ناتشو آلفازيز، كاتب الدولة الإسباني للحقوق الاجتماعية، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها بإسبانيا وزيرة الشؤون الاجتماعية وترقية المرأة بجبهة بوليساريو.
يبدو أن رئيس الحكومة، بيدرو سانشيز، كان يتوقع مثل هذه الحوادث، فإسبانيا تعيش عملية تحوّل معقدة من نظام الثنائية الحزبية (اليمين واليسار) نحو نظام حكومة متعدّدة الأحزاب، لذا دبّج خطاب الإعلان عن حكومته بعبارة "حكومة متعدّدة بخطاب واحد"، فيما يشبه دعوة إلى أعضاء حزب بوديموس، لتلافي كل ما قد يوقع الحكومة في أزماتٍ ومشكلات مع شركائها وجيرانها.
إسبانيا اليوم في حاجة ماسّة إلى نظرة جديدة للمغرب، مختلفةٍ عن النظرة الاستعمارية البائدة، والإقرار بأنه شريك أساسي، يتوقع أن يبلغ رقم التبادل التجاري معه، 24 مليار يورو، في أفق 2025. تحوّل يصعب تحقيقه من دون رجال دولةٍ يدركون قدر الجغرافيا، ويتصرّفون بناء عليه، آخذين بعين الاعتبار في معادلة التقدير كم المصالح وحجم التهديدات وكلفة الحاجيات ومستوى التحولات.. ولهم في مشروع التقارب المغربي البريطاني درس وعبرة.
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.