20 أكتوبر 2024
المنامة.. ورشة عمل بيع الفلسطينيين
إذا كانت أي دولة عربية تعيش وهم أن مشاركتها في ورشة البحرين، في نهاية يونيو/ حزيران المقبل، بحجة "صنع السلام" سوف تنقذ نظامها من "الغضب الأميركي"، أو تكسب رضى واشنطن، فهي واهمة أو تكذب على نفسها. فلا غرض من الورشة سوى تحديد ثمن بيع فلسطين والفلسطينيين، فمهما تدفقت المليارات لن تكون سوى دولارات مسمومة تبتزها الإدارة الأميركية من السعودية والإمارات، رغبة في تطويع الشعب الفلسطيني، وفرض التواطؤ على الدول المحاذية لفلسطين، وأهمها الأردن، والصمت على جريمة علنية تُرتكب تحت شعار "الازدهار الاقتصادي" الذي انتظرته أنظمة عديدة، منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، من دون جدوى، وكانت النتيجة تراكماً للديون، وتعميقاً للتبعية، وإضعاف كل دولة على حدة، والعالم العربي ككل.
لم تنجح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في إجبار الرؤساء والملوك العرب، بغض النظر عن مواقفهم في الغرف المغلقة، على تأييد أيٍّ من الخطوات الإسرائيلية غير المشروعة، من ضم القدس وهضبة الجولان أو الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، فلجأت إلى حصار الفلسطينيين مالياً، ومد جزرة المال إلى الدول التي ترزح تحت ديون فشل سياساتها الاقتصادية، وتبعيتها لمؤسسات الإقراض العالمية.
ليست فكرة "السلام الاقتصادي" جديدة، روّجها وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز، في ثمانينيات القرن الماضي، باعتبارها محفّزاً لدخول دول الطوق العربية في محادثات سلام مع إسرائيل، ولبيع الوهم للشعب الفلسطيني بتحسّن أوضاعهم. وفشلت محاولاته، وبدأت الإدارات الأميركية في التسعينيات ببيع وهم إقامة الكينونة الفلسطينية، وإنْ ممسوخةً تحت عنوان "الدولة الفلسطينية". وهنا الفرق الأساسي بين الفريق الذي كان له التأثير الأهم في السياسة الأميركية، بقيادة دينيس روس، وفريق إدارة الرئيس الحالي ترامب، برعاية جيسون غرينبلات وجاريد كوشنر، فالفريق الأول وجد أنه لا بد من تقديم مشروع يعترف شكلياً، وليس جوهرياً، "بطموحات الشعب الفلسطيني الوطنية" في مقابل تنازل جوهري عن حقوق الشعب الفلسطينية المشروعة، وفي مقدمتها حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتقرير المصير، والتحرّر من سيطرة المشروع الصهيوني.
لا يهمه، فريق غرينبلات – كوشنر، تقديم أفق سياسي للشعب الفلسطيني، ويعتقد أن المنتصر
(إسرائيل) يجب أن تفرض شروطها. ولذا يتحدثان، بدون مواربة، عن أنّه لا بديل للفلسطينيين إلا قبول ما يفرض عليهم شرطاً لتحسين وضعهم المعيشي، والبقاء تحت الهيمنة الإسرائيلية. ويتحدث علناً كل من غرينبلات وكوشنر، بهذا المنطق المتعجرف، في تعبير صادق عن منطق الاستعمار الاستيطاني من دون رتوش أو تجميل. وعداء الفريقين للحقوق الوطنية الفلسطينية واحد، لكن الأول يريد تقليص الطموحات الفلسطينية الوطنية إلى الحد الأدنى، لضمان استمرار هيمنة إسرائيل، والآخر يرى في الفلسطينيين كتلة سكانية غير مرغوب بها، يجب أن تكون شاكرة لإدارة ترامب وإسرائيل، في قبول شروط بقائها وتحسينها. لذا لا يهتم فريق ترامب برأي أو موقف أي قيادة فلسطينية، بل يحاول إيجاد واقع عربي يستفيد من إنهاء الحقوق الفلسطينية، ويشكل ضاغطاً على الفلسطينيين للاستسلام، وهنا يأتي دور بيع وهم الرفاه للدول العربية، ليبقى الفلسطينيون وحدهم. ويعمل هذا الفريق بدون أقنعة تدّعي الإنسانية والتعاطف، وهذا يجرّد "صفقة القرن" من الشرعية الزائفة لما سميت عقوداً عملية السلام، فلا مجال لأي نظام عربي أن يحاول تسويق مؤتمر المنامة باسم السلام، إذ تريد الولايات المتحدة إبرام صفقة مالية معلنة، يتخلى العالم العربي فيها عن أي ادّعاء، صادقاً كان أو كاذباً، بدعم الحقوق الشرعية والوطنية للشعب الفلسطيني في مقابل وهم الازدهار الاقتصادي.
المهم هو استمرار السلطة الفلسطينية والفعاليات الاقتصادية الفلسطينية على موقفها بمقاطعة المؤتمر، ودعم الأردن بشكل خاص في المؤتمر، إذ إن ذلك يورطها عملياً في قبول أي دور تراه الإدارة الأميركية مناسباً للنظام لتمرير مخططها. إذ لا يمكن أن تنجح الخطة الأميركية من دون مشاركة أردنية بالتنفيذ، لأن مستقبل الضفة الغربية بعد ضم إسرائيل معظم أراضيها وغور الأردن هو من دون دور أردني، إن كان بقبول إدارة أمنية للسكان الفلسطينيين، وفي هذا خطر على النظام واستقرار الأردن، أو مجرّد فرض سلطةٍ أمنيةٍ إسرائيليةٍ مباشرةٍ بدون دور للسلطة الفلسطينية على سكان الضفة، ويتحتم على ذلك حصار أردني على الضفة والسكان، واستثارة غضب معظم الأردنيين من مختلف الأصول بشكل غير مسبوق.
لا يزال الموقف الأردني غير واضح، ولكن مصداقية لاءات الملك عبدالله الثاني الرافضة صفقة القرن تتلاشى يومياً وبسرعة، فالقبضة الأمنية التي لجأت لها الأجهزة لتكميم الأفواه، والتعامل بارتيابٍ مع أي صوتٍ معارض، وخصوصاً بعد التغييرات التي طاولت مدير المخابرات وضباطاً كباراً، بتهمة تسريب أخبار صحيحة وكاذبة عن صراع قوى داخل العائلة المالكة، لا توحي بالثقة.
إذا كانت الرواية الرسمية المسرّبة عن محاولة تقويض الاستقرار وبث الفتنة دقيقة، فلماذا
تتعامل الأجهزة الأمنية مع الجميع بارتياب؟ لم يثبت أنّ لأي صوت معارض حقيقي دوراً في إشاعة التسريبات، واقتصر ذلك على أصواتٍ في الخارج لم تكن جزءاً من المعارضة، لكنها استعملت المعلومات لابتزاز النظام، واستطاع القصر احتواء أكثرها تأثيراً، وأعاده إلى الأردن من دون مساءلة أو عقاب.
تطورات الوضع الداخلي في الأردن، ومن ثم حسم الموقف الأردني الرسمي، من أكثر العوامل أهمية، إذ لا ينبئ استمرار الاحتقان بقدرة القصر، أو رغبته ببناء جبهة داخلية لمواجهة الضغوط الأميركية، ويبدو أن القصر يرى في الحراك المستمر، والأصوات المعارضة الفردية أو الجمعية، الخطر الأكبر، وفي هذا خطأ جسيم.
اللافت أن ربط ورشة المنامة ببدء عهدٍ من الازدهار الاقتصادي نجح في تقوية أصوات انعزالية، إنْ في الخليج، أو في الأردن، تطالب بالمشاركة في الورشة، بحجة البحث عن مصلحة الدول والشعوب العربية، فإضافة إلى بعض الأصوات الفاقعة القادمة من الخليج، عادت مقالات أردنية تتبنّى ضمنياً فك ارتباط الأردن بالقضية الفلسطينية، وانتهاز الفرصة لإنعاش الاقتصاد الأردني.
الأصوات هي صدى للمقولات نفسها التي شهدتها مصر عشية اتفاقية كامب ديفيد، تمهيداً للمعاهدة، وهي أصواتٌ مطلوبةٌ لتشجيع رؤوس الأموال للانخراط في كل جوانب تسويات إقليمية ترعاها أميركا، وخداع الشرائح الفقيرة والكادحة من الشعب بقرب الانفراج، في ظل أزماتٍ اقتصادية موجعة في الأردن وفلسطين ودول عربية أخرى.
التذكير بأن اتفاقية أوسلو الفلسطينية ومعاهدة وادي عربة الأردنية لم تجلبا الازدهار الاقتصادي أمر ضروري، ولكن هناك نظرة ضيقة، وخصوصاً في التيارات الانعزالية التي تخفي تعصّباً قطرياً وإقليمياً، وترى في الفلسطينيين وقضيتهم عبئاً سياسياً واقتصادياً، ووجدت فرصة في دعاية غرينبلات - كوشنير للتخلص من هذا العبء، وكأن إسرائيل أصبحت دولة صديقة بين ليلة وضحاها.
لا مكان للبعد الأخلاقي المتمثل بحرمان شعبٍ من حقوقه، في سياق تسويق ازدهار بعض النخب، فهذه هي فلسفة ورشة بيع الحق الفلسطيني في المنامة. أما الأنظمة، فمن يرد الالتزام بأي موقف رافض لا يستطِع مسك العصا من النصف، فمؤتمر المنامة هو بداية نفقٍ نهايتُه غرق في طوفان التنازلات، فكل وعد بدعم أو استثمار ليس إلا قيداً دامياً لدول وشعوب.
لم تنجح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في إجبار الرؤساء والملوك العرب، بغض النظر عن مواقفهم في الغرف المغلقة، على تأييد أيٍّ من الخطوات الإسرائيلية غير المشروعة، من ضم القدس وهضبة الجولان أو الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، فلجأت إلى حصار الفلسطينيين مالياً، ومد جزرة المال إلى الدول التي ترزح تحت ديون فشل سياساتها الاقتصادية، وتبعيتها لمؤسسات الإقراض العالمية.
ليست فكرة "السلام الاقتصادي" جديدة، روّجها وزير الخارجية الأميركي السابق جورج شولتز، في ثمانينيات القرن الماضي، باعتبارها محفّزاً لدخول دول الطوق العربية في محادثات سلام مع إسرائيل، ولبيع الوهم للشعب الفلسطيني بتحسّن أوضاعهم. وفشلت محاولاته، وبدأت الإدارات الأميركية في التسعينيات ببيع وهم إقامة الكينونة الفلسطينية، وإنْ ممسوخةً تحت عنوان "الدولة الفلسطينية". وهنا الفرق الأساسي بين الفريق الذي كان له التأثير الأهم في السياسة الأميركية، بقيادة دينيس روس، وفريق إدارة الرئيس الحالي ترامب، برعاية جيسون غرينبلات وجاريد كوشنر، فالفريق الأول وجد أنه لا بد من تقديم مشروع يعترف شكلياً، وليس جوهرياً، "بطموحات الشعب الفلسطيني الوطنية" في مقابل تنازل جوهري عن حقوق الشعب الفلسطينية المشروعة، وفي مقدمتها حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتقرير المصير، والتحرّر من سيطرة المشروع الصهيوني.
لا يهمه، فريق غرينبلات – كوشنر، تقديم أفق سياسي للشعب الفلسطيني، ويعتقد أن المنتصر
المهم هو استمرار السلطة الفلسطينية والفعاليات الاقتصادية الفلسطينية على موقفها بمقاطعة المؤتمر، ودعم الأردن بشكل خاص في المؤتمر، إذ إن ذلك يورطها عملياً في قبول أي دور تراه الإدارة الأميركية مناسباً للنظام لتمرير مخططها. إذ لا يمكن أن تنجح الخطة الأميركية من دون مشاركة أردنية بالتنفيذ، لأن مستقبل الضفة الغربية بعد ضم إسرائيل معظم أراضيها وغور الأردن هو من دون دور أردني، إن كان بقبول إدارة أمنية للسكان الفلسطينيين، وفي هذا خطر على النظام واستقرار الأردن، أو مجرّد فرض سلطةٍ أمنيةٍ إسرائيليةٍ مباشرةٍ بدون دور للسلطة الفلسطينية على سكان الضفة، ويتحتم على ذلك حصار أردني على الضفة والسكان، واستثارة غضب معظم الأردنيين من مختلف الأصول بشكل غير مسبوق.
لا يزال الموقف الأردني غير واضح، ولكن مصداقية لاءات الملك عبدالله الثاني الرافضة صفقة القرن تتلاشى يومياً وبسرعة، فالقبضة الأمنية التي لجأت لها الأجهزة لتكميم الأفواه، والتعامل بارتيابٍ مع أي صوتٍ معارض، وخصوصاً بعد التغييرات التي طاولت مدير المخابرات وضباطاً كباراً، بتهمة تسريب أخبار صحيحة وكاذبة عن صراع قوى داخل العائلة المالكة، لا توحي بالثقة.
إذا كانت الرواية الرسمية المسرّبة عن محاولة تقويض الاستقرار وبث الفتنة دقيقة، فلماذا
تطورات الوضع الداخلي في الأردن، ومن ثم حسم الموقف الأردني الرسمي، من أكثر العوامل أهمية، إذ لا ينبئ استمرار الاحتقان بقدرة القصر، أو رغبته ببناء جبهة داخلية لمواجهة الضغوط الأميركية، ويبدو أن القصر يرى في الحراك المستمر، والأصوات المعارضة الفردية أو الجمعية، الخطر الأكبر، وفي هذا خطأ جسيم.
اللافت أن ربط ورشة المنامة ببدء عهدٍ من الازدهار الاقتصادي نجح في تقوية أصوات انعزالية، إنْ في الخليج، أو في الأردن، تطالب بالمشاركة في الورشة، بحجة البحث عن مصلحة الدول والشعوب العربية، فإضافة إلى بعض الأصوات الفاقعة القادمة من الخليج، عادت مقالات أردنية تتبنّى ضمنياً فك ارتباط الأردن بالقضية الفلسطينية، وانتهاز الفرصة لإنعاش الاقتصاد الأردني.
الأصوات هي صدى للمقولات نفسها التي شهدتها مصر عشية اتفاقية كامب ديفيد، تمهيداً للمعاهدة، وهي أصواتٌ مطلوبةٌ لتشجيع رؤوس الأموال للانخراط في كل جوانب تسويات إقليمية ترعاها أميركا، وخداع الشرائح الفقيرة والكادحة من الشعب بقرب الانفراج، في ظل أزماتٍ اقتصادية موجعة في الأردن وفلسطين ودول عربية أخرى.
التذكير بأن اتفاقية أوسلو الفلسطينية ومعاهدة وادي عربة الأردنية لم تجلبا الازدهار الاقتصادي أمر ضروري، ولكن هناك نظرة ضيقة، وخصوصاً في التيارات الانعزالية التي تخفي تعصّباً قطرياً وإقليمياً، وترى في الفلسطينيين وقضيتهم عبئاً سياسياً واقتصادياً، ووجدت فرصة في دعاية غرينبلات - كوشنير للتخلص من هذا العبء، وكأن إسرائيل أصبحت دولة صديقة بين ليلة وضحاها.
لا مكان للبعد الأخلاقي المتمثل بحرمان شعبٍ من حقوقه، في سياق تسويق ازدهار بعض النخب، فهذه هي فلسفة ورشة بيع الحق الفلسطيني في المنامة. أما الأنظمة، فمن يرد الالتزام بأي موقف رافض لا يستطِع مسك العصا من النصف، فمؤتمر المنامة هو بداية نفقٍ نهايتُه غرق في طوفان التنازلات، فكل وعد بدعم أو استثمار ليس إلا قيداً دامياً لدول وشعوب.
مقالات أخرى
29 سبتمبر 2024
22 سبتمبر 2024
15 سبتمبر 2024