المنجرة وعجمي... النموذجان النقيضان
أمران يجمعان بين المغربي المهدي المنجرة واللبناني فؤاد عجمي. وفاتُهما في أسبوعٍ واحد في يونيو/حزيران الجاري، وأنهما النموذجان النقيضان (أل التعريف هنا شديدة الأهمية) للمثقف العربي، أو العالمثالثي إن شئنا، في صلته المعرفية بالغرب، عندما تكون في ضفتين متعاكستين. واحدةٌ نقدية تخاصم بجسارة ما لدى هذا الغرب من وسائل الهيمنة، وترفضها برؤيةٍ حضاريةٍ حاذقة، وتواجه، في سجالٍ ثقافي، غير متعصبٍ وغير مغلق، سعي المؤسسة السياسية الحاكمة في هذا الغرب إلى مصادرة إرادات الشعوب والأمم الأخرى وإمكاناتها، مع الإفادة، في الوقت نفسِه، من منجز هذا الغرب على صعد الحقوق والمؤسسية السياسية وتقدير العلم. هذا ما وسم جهد المنجرة ونشاطه، وهو الذي درس في الولايات المتحدة وانجلترا، وعمل في مؤسساتٍ وأكاديمياتٍ غربية، وعرف الغرب واختبره، ووقع على أدواته في سعيه إلى إخضاع حضاراتٍ وحساسياتٍ ثقافيةٍ مغايرة له. أما الضفة المعاكسة لهذا المنحى، فقد مكث فيها فؤاد عجمي، عندما انخرط، إلى حد الاستلاب، في هذا المشروع، بنسخته الأميركية الأشد صلفاً، واصطف في الجناح الأكثر توحشاً فيها، واختار أن يكون من أدواتها في استهداف العرب وأوطانهم، بزعم تخلفهم الحضاري، وتفشي الاستبداد بين ظهرانيهم.
أفقٌ جهدَ المهدي المنجرة في إشاعتِه مضادٌّ تماماً لما نشط فيه عجمي. هذا وجد الاحتلال الأميركي للعراق هديةً من الأجنبي لهذا البلد وللعرب، فيما رأى النموذجُ نقيضه، ممثلاً في المثقف المغربي، حرباً حضاريةً في استهداف الولايات المتحدة العراق، منذ 1991. عمل المهاجر إلى الولايات المتحدة من جنوب لبنان، عجمي، مستشاراً لدى كوندوليزا رايس وجورج بوش الابن، ويسَّر للنزعة الحربية لدى إدارتهما منظوراً ثقافياً عربياً تتكئ عليه، كان شاطراً في تأثيثه، وفي تأمين ما توهمها موجباتٍ لانتشال العراقيين، والعرب المسلمين، من تخلفهم، إلى ما يلزمهم من ديمقراطيةٍ وتعاليم أميركية في حقوق الإنسان. كان يخوض في هذا الكلام، نصيراً لإسرائيل من موقعٍ صهيونيٍ، أقام فيه مرتاح الضمير، وقد كان، في يفاعته، شغوفاً بالقومية العربية وجمال عبد الناصر.
على الضد من خيار صواريخ التوماهوك هذا، كان المهدي المنجرة ينظّر لحوار الشمال والجنوب، ويبحث في القيم الإنسانية المشتركة، لتثميرها وتعظيمها، صدوراً عن قناعته أنَّ الشعوب العربية، وكذا شعوب العالم الثالث، ليست موبوءةً إلى حدٍّ يصيّرها بيئاتٍ لمعامل الأفكار الغربية، ذات النزعات الإمبريالية المهجوسة بالسيطرة والتوسعية، والمتورمة بالرؤية الاستشراقية الفوقية، عن تقدمٍ هناك، ودونية هنا. كان المنجرة يشدّد على أن التواصل الحضاري يبدأ باحترام الآخر، ويرى نفسه إنساناً غير مكتمل الحرية ما دامت فلسطين محتلة، أما فؤاد عجمي فقد استبدّ به احتقار بني جلدته العرب، وتوطن في مداركه، إلى حدٍّ أعماه عن التحديق في الكارثة الاستعمارية، وأخذه الولع بإسرائيل إلى صداقةٍ وثيقةٍ مع الليكودي الأميركي، برنارد لويس، وإلى "الطخِّ" على إدوارد سعيد.
من المفارقات أن المنجرة، والذي درس الثانوية والمرحلة الجامعية الأولى في أميركا، كتب غير مرة عن المثقفين الذين يرتبط وجودهم بالمستعمر الجديد، وهجسَ بتغييرٍ سيحدث في الفضاء العربي. أما عجمي فلم يكن يستطيب الإحالة إلى قدراتٍ لدى الذات العربية في تطلعها إلى تحقيق أشواقها بالتحرر من الاستبداد والقمع، وكانت جرائد وتلفزاتٌ أميركية تخلع عليه وصف الخبير في التاريخ العربي، فيما لا تتبين في مداخلاته التلفزيونية الغزيرة، وفي أحدث كتبه (التمرد السوري)، مثلاً، أية خبرة في هذا التاريخ.
إنهما النموذجان النقيضان تماماً، الندّي والمستلب. لم يكن المهدي المنجرة ثورياً من صنفٍ ماركسيٍ، أو جيفاريٍ، في مناهضة الإمبريالية (والميغا إمبريالية، بحسب عنوان أحد كتبه). ولم يكن فؤاد عجمي يمينياً صاحب رؤيةٍ مغاليةٍ في الليبرالية والرأسمالية المفرطة. كانا في ضفتين متعاكستين، نحدسُ أن الصراع بينهما شديد الراهنية، وشديد الحدة، معاً.