المنصّات الرقمية ومستقبل التلفزيون
لم أعد أشاهد التلفزيون، منذ سنوات، إلا قليلا جدا. اكتشفتُ أنني عزفتُ تماما عن مشاهدة الشاشة الصغيرة، حتى وأنا أجلس أمامها أحيانا على سبيل التعوّد. أتابع أحيانا بعض البرامج المهمة، وخصوصا الوثائقيات والبرامج التي تعتمد على مقابلاتٍ مع شخصيات معيّنة. أما الأفلام السينمائية، وهي غرامي التلفزيوني القديم، فأصبحتُ نادرا ما أشاهدها وكذلك المسلسلات التي قلّما يشدّني أحدها لأتابعه على التلفزيون، وحتى لو بدأت فعلا بالمتابعة فسرعان ما أشعر بالملل، فأتركه بعد قليلٍ من الحلقات.
أدركتُ، أخيرا، أن رداءة معظم ما تعرضه القنوات التلفزيونية ليست السبب الوحيد لعزوفي عن الشاشة الصغيرة، فرغم أن المعروض في معظمه رديء فعلا، إلا أن هناك إنتاجا لا بأس به. وبين آونةٍ وأخرى، نحظى بأعمال تلفزيونية تستحقّ المتابعة فعلا. لكن ما جعلني أشعر بمللٍ من المتابعة هو تحوّل تلك الشاشات إلى وسائل إعلانية بامتياز. صحيحٌ أن الإعلانات والدعايات الاستهلاكية كانت دائما موجودة، ولا بد من وجودها أصلا لتمويل الأعمال الفنية والتلفزيونية عموما، لكن كثرتها التي تفوق الحدود المحتملة أصبحت ظاهرة لافتة في السنوات الأخيرة، ما يؤثّر فعلا على مستوى تلقّي المشاهد تلك الأعمال. فمن غير المعقول أن نندمج بمشهد درامي مليءٍ بالأسى والدموع بذل فيه الممثلون جهدا كبيرا لإيصال مشاهد الشخصيات الحزينة إلى المتلقي، فنفاجأ بمن يقتحم ذلك المشهد بأغنية رقيعةٍ أو رقصةٍ مبتذلةٍ ليعلن لنا عن وجبةٍ سريعةٍ أو جهاز مطبخي أو سيارة أو عطر أو غير ذلك من الإعلانات اليومية المعتادة. وكم من عملٍ فنّي جيد انصرف عنه المشاهدون لشعورهم بالملل وطول الوقت أيضاً الذي تتسبّب به الإعلانات الكثيرة!
ساهمت كثرة تلك الإعلانات وإلحاحها على الأعمال التلفزيونية، الناجحة تحديدا، في صرف المُشاهد عنها. اكتشفتُ ذلك عندما تابعت بعض الأعمال في منصّات المشاهدة التي ظهرت في السنوات الأخيرة. ومن الواضح أن هذه المنصّات الرقمية التي تتيح للمستخدمين الوصول إلى مجموعة واسعة وخيارات متعدّدة وحرّة من الأفلام والبرامج والمسلسلات على مدار الساعة، وفي الوقت الذي يختاره المستخدم نفسه ستكون هي الحل الأمثل للمشاهدة الترفيهية والمعرفية.
بإمكان مستخدم مثل هذه المنصّات الوصول إلى المحتوى الذي يختاره بين مجموعة كبيرة من المعروض بسهولة وفي الوقت الذي يناسبه، وفي أي مكان يوجد فيه، وبأيسر الوسائل، فهي تتوفّر على أجهزة الهواتف الصغيرة ما يجعلها متاحةً دائما.
كما أن عدم وجود الإعلانات المزعجة فيها لا يوفر وقت المستخدم، وهذا مهم، وحسب، بل يسهم في تقديم العمل الفني المعروض عليها بالشكل المثالي، وكما صنعه فريق العمل بلا انقطاع مفاجئ في لحظاتٍ حاسمة، كما يحدُث في شاشات التلفزيون التقليدية.
كما أن انخفاض تكلفة المشاهدة الحرّة في مثل هذه المنصّات مقارنة بمميزاتها سيساهم في انتشارها بشكل أكبر قريبا. وستكون أمام التلفزيونات التقليدية، وخصوصا التي تُشرف عليها الحكومات من خلال وزارات الإعلام تحدّيات كبيرة للبقاء، إن لم تطوّر من نفسها، وتلحق بركب التقنيات الجديدة على الصعيد الإعلامي.
صحيحٌ أن المنصّات الرقمية ما زالت في بدايتها، وأن المستخدم يواجه أحيانا بعض المشكلات التقنية في التلقّي، بسبب اعتمادها على شبكة الإنترنت وسرعاتها المختلفة من مكان إلى آخر، لكن هذا النوع من المشكلات مما يمكن السيطرة عليه بسرعة. ومثل هذه التحدّيات التي تواجه المنصّات الرقمية وغيرها هي ما تجعلها تسارع في تجويد خدماتها وتحسين منتجاتها، فالسوق كبير ومتجدّد ولا يرحم من لا يستطيع اللحاق به.