المنصّات الهاربة من أسر السياسات

07 مايو 2024
+ الخط -

في الثالث من أيار/ مايو كلّ عام، تحتفل الجمعية العامة للأمم المتّحدة بحرّيّة الصحافة، وتحدّد هدفاً لنشاطها في هذا اليوم، أمّا شعار هذا العام فهو "صحافة من أجل الكوكب: الصحافة في مواجهة الأزمة البيئية"، انطلاقاً من أهمية حرّية التعبير في سياق الأزمة البيئية التي يعاني منها كوكب الأرض حالياً. تأسّس هذا الاحتفال السنوي إثر إعلان ويندهوك، الصادر عن مؤتمر عقد بإشراف "يونسكو" في عاصمة ناميبيا (بين 23 إبريل/نيسان و 3 مايو/أيار عام 1991)، الداعي إلى تطوير صحافة حرّة ومستقلّة وتعدّدية. وترى الجمعية العامة للأمم المتّحدة أنّ هذا اليوم تذكير للحكومات بضرورة احترام التزامها بحرّية الصحافة، وأنّه فرصةٌ للدفاع عن وسائل الإعلام أمام الاعتداءات على استقلاليتها، وتُذكّر كلّ عام بالصحافيين الذين فقدوا أرواحهم في سبيل تقصّي الحقيقة.
أما إسرائيل، التي جاء تصنيفها في المرتبة 97 من أصل 180 بلداً مستهدفاً في التقرير العالمي لحرّية الصحافة لعام 2023، فهي ماضية في جرائمها في حقّ الصحافيين، ليس في هذه الحرب الوحشية على غزّة، التي لم يظهر لها أفق إلى الآن، فقط، بل منذ قيامها، وفي كلّ حرب على غزّة كانت تستهدف الصحافيين والإعلاميين بكلّ صلف وجبروت، متحدّية العالم كلّه، فهي الدولة التي يصنّفها الغرب أنّها الدولة "الديمقراطية" الوحيدة في المنطقة، الديمقراطية التي ترسل أميركا مبشّريها على ظهور دباباتها من أجل إقامتها. لم تتوقّف إسرائيل عن ممارسة السلطة القاهرة من دون رادع، وهي تحيل حياة الفلسطينيين على مستوى من البؤس والبدائية لا يمنحهم فرصةَ الفاعليةِ الحياتية والمساهمة في بناء أيّ شيء مستدام. إسرائيل تمارس اعتقال الكيان المادّي للفلسطينيين؛ المكان والجسد، جسد الفرد وجسد الجماعة، فهي تدرك تماماً أنّ مصادرة المساحة الخاصّة بالفرد تعني تقلّص كيانه أيضاً، فمنذ نشوئها، ارتكبت، وترتكب، الجرائم في حقّ الأمكنة والأجساد، تُمارس الهدم والاقتلاع والإحلال والاعتقال والتعذيب والقتل، وتضرب بعرض الحائط كلّ القرارات الدولية، حتّى تلك المراوِغَة وغير المُنصفة للشعب الفلسطيني، فهي لا تحتمل أن يكون هناك اعتراف بحقّ الفلسطيني في الوجود والعيش. لذلك، فهي تمضي، بالتوازي مع مشروعها المستدام في محو الوجود الفلسطيني، في ممارسة الاعتداء على كلّ من يحاول أن ينقل الواقع ويستقصي الحقيقة، بكلّ صلف وجبروت، مُسفّهة أيّ صوتٍ ينتقد ممارساتها مهما مثّل هذا الصوت مواقع رسمية أو دبلوماسية أو سياسية أو حتّى أممية، كتسفيهها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس مرّات عديدة.

حملات التضليل تتحدّى المعرفة وأساليب البحث العلمي في سياق الأزمة البيئية، التي تتمثّل في ثلاثة مجالات كبيرة؛ تغيّر المناخ، وفقدان التنوّع البيولوجي، وتلوّث الهواء

من المفروغ منه أنّ قضية الأزمة البيئية تهمّ البشرية جمعاء، ما يعني أنّ الوعي بجوانب الأزمة وأبعادها ومسبباتها وأخطارها أمر ضروري من أجل بناء مجتمعات مُعافاة، ويرى القائمون على الأمر أنّ أمام الصحافيين تحدّيات كبيرة في البحث عن المعلومات التي تخصّ هذه القضية، وأنّ حملات التضليل تتحدّى المعرفة وأساليب البحث العلمي في سياق هذه الأزمة، التي تتمثّل في ثلاثة مجالات كبيرة؛ تغيّر المناخ، وفقدان التنوّع البيولوجي، وتلوّث الهواء، وما ينجم عنها من مشاكل فرعية تهدّد الحياة على الكوكب. لكن أليست هذه الحروب التي تضرمها القوى الكبرى المُتحكّمة بمصير البشرية من أكبر الأخطار التي تهدّد الكوكب؟ أليست الحرب الإسرائيلية على غزّة معياراً مُهمّا لنزاهة التقصّي عن الحقيقة ونزاهة الضمير وحقّ التعبير؟
تقول الرئيسة التنفيذية للجنة حماية الصحافيين، جودي غينزبرغ، إنّ مقتل كلّ صحافي هو بمثابة "ضربة إضافية لفهمنا للعالم"، فكيف عندما يقتل في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب الحالية على غزّة ما يفوق العدد الذي سجلّ لمدة عام خلا؟ لقد استهدفت إسرائيل الصحافيين الفلسطينيين وعائلاتهم في إصرار فاجر على ممارسة قوّتها القاهرة، فهي صاحبة سجلّ حافل بالجرائم من هذا النوع، وإفلات من العقاب باستمرار. حتّى الإعلام الغربي لم يكن نزيهاً ولم يكن مستقلاً إلّا في حالات قليلة، ولم يراعِ مبادئ الموضوعية والتوازن والتعدّدية في تعاطيه مع الحرب الإسرائيلية على غزّة، رغم تغيّر خطابه قليلاً في بعض الدول تجاه فضائح ما ترتكبه إسرائيل، وهذا كان سيطمس جرائم إسرائيل ويُكرّس سرديتها المؤسّسة منذ قيامها، وروايتها الخاصة عن الحرب الحالية، في سعي مستمرّ لتكريس مظلوميتها وطمس حقّ الفلسطينيين. ومن الأمثلة على هذا ما أوصت به "نيويورك تايمز" صحافييها بشأن تفادي استخدام عبارات من قبيل "الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي" و"الأراضي المحتلة"، بل حتّى مفردة "مخيّمات" النزوح، عند تناول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما جاء في تقرير لـ"ذا إنترسبت".

تمضي إسرائيل، بالتوازي مع مشروعها المستدام في محو الوجود الفلسطيني، في ممارسة الاعتداء على كلّ من يحاول أن ينقل الواقع ويستقصي الحقيقة

هذا التعاطي الإعلامي المُنحاز إلى إسرائيل كان سيقطع الطريق على الحراك الشعبي الذي انطلق في أميركا ومناطق كثيرة في الغرب، وفي العالم أيضاً، لولا الصحافة البديلة التي تفرض نفسها في عصر الأجهزة الذكية والمنصّات الإلكترونية، رغم كلّ الانتقادات والتخوّف في العالم من هذا الانفلات المتعاظم من القيود، والحرّيات الكبيرة التي تمنحها هذه المواقع والمنصّات للأفراد، من دون إغفال النظر عن أجنداتها أيضاً، وهذا ما شهدناه من التقييد على مساهمات الروّاد وحذف أو حجب أيّ مساهمة تدين إسرائيل بحجَّة أنّها تتعارض مع سياسة المنصّة أو الموقع، حتّى إنّ رواد المواقع قد لجأوا إلى تشفير أو تقطيع أيّ كلمة تشير إلى غزّة أو فلسطين أو الحرب الإسرائيلية عليها، كي لا تلتقطها خوارزميات المنصّات وتحذفها أو تفرض الحظر على مستخدميها. لكن كانت هناك منصّات أخرى مثل "تيك توك"، الذي تدور الحرب الباردة بشأنه بين الصين وأميركا، ومعها الدول الأوروبية. هذه المنصّة أسهمت إلى حدّ كبير في فضح الجرائم في غزّة، ونشر ما يجري محوه أو تقييده من قبل المنصّات الأخرى الداعمة لإسرائيل، وبالتالي، فقد شكّلت أساساً لفهم ما يحدث على أرض الواقع الذي سعت إسرائيل إلى طمسه بالتعاون مع حلفائها، بغضّ النظر عن دوافع الصين، فحرب المنصّات واحدة من أدوات الحرب بين الصين وأميركا.

لم يعد إخضاع الإعلام التقليدي لأجندات سياسية يتمتّع بالفاعلية والجدوى اللتيْن كان يتمتّع بهما قبل هذا العصر

صحيحٌ أنّ الصحافة يلزمها مجال غير محدود من الحرّية، وبخاصّة الصحافة الاستقصائية، وهذا لا يمكن تأمينه من دون تعاون الجهات الرسمية والمؤسّسات المعنيّة بشأن أيّ موضوع، ولا يمكن لفرد واحد، مهما بلغ من الحرّية والاستقلالية، أن يصل إلى البيانات اللازمة لبحثه أو موضوعه الاستقصائي من دون هذا الدعم، لكنّ إمكانية رصد الواقع وتصويره بواسطة الأجهزة الذكية أضحت متوافرة للأفراد في قلب الحدث، وهذا ما استهدفته إسرائيل أيضاً، عندما لجأت إلى قطع خدمة الإنترنت مرّات عديدة قبل القيام بعملياتها، لكنّ هذا اللعب لا يمكنه أن يستمرّ، فالعدسات ترصد والأجهزة تُخزّن، والوسائل ستأتي من أجل نشر ما رصدته الكاميرات من جرائم مهولة.
رغم أهمية الإعلام الرسمي أو الإعلام والصحافة التقليدييْن، وأهمية استقلالية هذا الإعلام النسبيّة، فإنّ الإعلام البديل، القائم على المبادرات الفردية أو الجماعية بعيداً عن المؤسّسات الرسمية أو الحزبية أو السياسية، يلعب دوراً محورياً في مواجهة تضليل الحكومات في أيّ شأن يخصّ البشرية، وأضحى يلعب دوراً مُهمّاً في الوصول إلى المعلومة في كلّ أصقاع الأرض، ويشكّل ساحة صراع أيضاً، فلكلّ طرف أو مجموعة رأيها وتوجهاتها وقضاياها التي تتبناها، وبالتالي سوف تضخّ كلّ ما يخدم توجهاتها، لكن يبقى للشعوب أن تختار، وها هي الأجيال الحالية تختار الدفاع عن القيم الإنسانية، تختار الدفاع عن مستقبلٍ خالٍ من الصراعات والحروب والتمييز والقتل، وتختار الدفاع عن حرّية الرأي والتعبير، فمثلما تهمّها قضايا البيئة والكوكب، تهمّها قضايا المصير البشري والعدالة الإنسانية والمساواة في الحقوق، ومناهضة الحروب التي تدمّر الكوكب، وإذا كان التلفزيون هو المنصّة الأكثر فاعلية في ستينيات القرن الماضي، فإنّ الميديا، متعدّدة الوسائط، أضحت اليوم ذات فاعلية أوسع وأكبر وأشمل، ولم يعد إخضاع الإعلام التقليدي لأجندات سياسية يتمتّع بالفاعلية والجدوى اللتيْن كان يتمتّع بهما قبل هذا العصر.