الميثولوجيا والنشاط العقلي
قبل أعوام طويلة ولد في قرية مجاورة لقريتي في جبال الساحل السوري طفل لعائلة فقيرة، يعمل أفرادها في الرعي والزراعة. ومثل أشقائه لم يتح له أن يذهب إلى المدرسة الوحيدة في القرية الأخرى. نشأ الطفل أميا لا يعرف شيئا عن القراءة والكتابة. وبالطبع، لم تكن الكهرباء قد وصلت يومها إلى الريف السوري، خصوصا الجبلي، فلا توجد أجهزة تلفزيون (لم يكن قد عرف وقتها في سورية أساسا). ربما كان أحد سادة المنطقة يمتلك جهاز راديو صغيرا، وحتما لم يكن سيتاح للصبي الصغير الاستماع إليه أو متابعة ما يبثّ فيه. كبر الصبي الصغير، وصار يحكي أمام أقرانه عن ذكريات بالغة الغرابة، عن حياةٍ عاشها في البرّية بين الأشجار، حين كان ولدا صغيرا جسمه مكسوٌّ كله بالشعر، وظهره محنيٌّ رغم صغر سنه، وعن الشعر على صدر أمه التي ظلت ترضعه حتى حين كان يذهب إلى الصيد مع أبيه ويعود معه إلى البيت/ الكهف، يأكل أبوه وأمه من الطريدة، بينما هو يرضع ثدي أمه التي كانت تصرخ من الألم حين يمسكها من شعر صدرها.
كبر الطفل وأصبح شابّا، وظل يردّد تلك الحكايات، ويضيف إليها تفاصيل أخرى غريبة، حتى سمع به أشخاصٌ من المدينة رجال متعلمون، ولديهم أجهزة تسجيل تعمل على البطّارية، قصدوا قريته، وطلبوا التعرّف إليه سجّلوا له شريطي كاسيت مدة كل منهما ساعة، حكى خلالهما تفاصيل مثيرة تكاد تتطابق مع ما يقوله علماء الأركيولوجيا عن العالم عن البشر في العصر الحجري. يتذكّر الشاب الأصوات التي كانت تصدُر منه ومن المحيطين به (ما قبل اللغة) ويتذكّر شكل الأدوات المستخدمة في عملية الصيد، ويحكي عن حيواناتٍ غريبةٍ يذكر التاريخ أنها كانت موجودة وانقرضت منذ آلاف السنين.
حيّرت حكاية الشاب من سمعوه وتناقلوا التسجيلات عنه، فهو أميٌّ حقا، لا يمكن أن يكون قد قرأ معلوماتٍ كهذه في أي مكان، وحتما لم يشاهد فيلما ما عنها، خصوصا أن أهل قريته يقولون إنه بدأ بذكر تلك التفاصيل منذ طفولته الأولى. ما هو تفسير ذلك إذا؟ بطبيعة الحال، سوف يلجأ المدهوشون من ذاكرة الشاب إلى أكثر التفسيرات سهولة: هذا الشاب "بيحد بجيله"، وهي جملة محض محلية، يعرفها أهل جبال الساحل جيدا، وتعني أن الشاب متقمّص روحا أخرى ظلت هائمة في فراغ الكون منذ العصر الحجري، حتى تلامست بقميص بشري جديد، وحلت به وأخذت ذاكرته.
يؤمن أهل منطقتي بالتقمّص والتناسخ نوعا من الميثولوجيا والإيمان الذي يستعيضون به عن فهم المجهول، ويقابلون به السؤال البشري الأخطر: ما هو الموت؟ بيد أن هذه الإيمانات، بما تختزنه من حالة أسطورية، قد تكون جميلة جدا لو جرى استخدامها في الشعر والفنون عموما، إلا أنها بعيدة كليا عن المنطق العلمي، حين يفسر ظواهر كهذه بنشاط الدماغ البشري الذي يختصر العلماء الوجود كله ببنيته المعقّدة والمركّبة من مجموعة مهولة من الطبقات المختزنة للوعي وللاوعي الفردي والجمعي، كما أن الذاكرة البشرية تعمل بشكل مدهش، فهي تربط أحداثا قديمة مع افتراضات حديثة وتجعلها تبدو كما لو أنها حقيقية، أو بالأدقّ يتعامل المحيط مع نتاج هذا النشاط كما لو أنه حقيقة إذا ما تطابق مع التاريخ الميثولوجي لهذا المحيط أو ذاك.
ثمّة ذاكرة جينية يتحدّث عنها العلماء، قرأت عنها منذ أيام ما يدهش، فهذه الذاكرة قد تتفعل بقوة في جيل قديم من جيل الأجداد، وتعود إلى الظهور بعد أجيال عدة، وهو ما يفسّر إبداع طفلٍ ما بالموسيقى مثلا أو بالعلاقات الرياضية البحتة، وهو أيضا ما يفسّر أن يعرف طفل أوروبي لغة المصريين القدماء، أو يتحدّث عن تفاصيل حضارة من الحضارات القديمة.
نشأت الميثولوجيا من الخوف من المجهول، من إدراك وجود الموت وجهل ما بعده، هي نشاط نشأ مع تطوّر الدماغ البشري في محاولة لفهم تركيبة الكون والحياة والموت بأسهل الطرق المتاحة؛ ففي الميثولوجيا والغيب ما يجلب الطمأنينة، بينما في التحليل العلمي ثمّة حقائق صادمة لا يريد البشر عموما المواجهة معها. وقد يكونون محقّين في ذلك فمع الحقيقة يختفي الخيال. وكم كانت الحياة لتكون قاسيةً لولا الخيال.