الناخب الغائب في انتخابات تركيا
استأثرت الانتخابات التركية باهتمام إقليمي ودولي كبير، وصل أحياناً إلى حدّ التدخل الناعم دعماً لهذا المرشّح أو ذاك، تفضيلاً للاستمرارية أو التغيير، وفي هذا دلالة على وزن تركيا، ومكانتها الإقليمية والدولية، وفرادة موقعها الجيوسياسي، حيث يشكّل أي تغيير في سياستها الخارجية فارقاً كبيراً في ملفّات عديدة، وهو أمر محتملٌ جداً في ما لو تغير صانع القرار التركي. بالنسبة للسوريين، كانت الرهانات أكبر من ذلك بكثير، فالنتيجة لا تعني بالنسبة إليهم مجرّد تغيير في الاصطفافات الإقليمية والدولية تؤثر حتما في مستقبل قضيتهم، بل باتت مسألة مصير ووجود لبعضهم، خصوصاً بعد أن تحوّلت سورية إلى قضية جوهرية في الحياة السياسية التركية، فتركيا تحتضن أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري وجدوا أنفسهم، وقد تقطّعت بهم السبل، في قلب معركة انتخابية تشكّل نتيجتها بالنسبة إليهم فارقاً بين الاستقرار أو استئناف رحلة النزوح. وإذا تركنا اللاجئين وهمومهم جانباً، ونظرنا إلى المستوى السياسي، نجد أن للنظام السوري وكذلك المعارضة رهانات وحسابات كبرى مرتبطة بنتيجة الانتخابات التركية.
أراد النظام سقوط أردوغان، حتى لو كان وصول "تحالف الأمة" التركي المعارض إلى الحكم لا يخدم بالضرورة مصالحه، وقد حاول عملياً مساعدته في هزيمة أردوغان من خلال مقاومة الضغوط الروسية للتجاوب مع محاولات هذا الأخير التطبيعية بقصد التخفيف من ضغط قضية اللاجئين في الانتخابات عليه. رحيل أردوغان يمثل بالنسبة للنظام السوري نصراً سياسياً ومعنوياً كبيراً باعتبار أنّ ذلك، لو حصل، (لن يحصل في أي وقت قريب) يطوي مرحلةً بكاملها حاول خلالها الرئيس التركي إسقاط النظام السوري من خلال دعم المعارضة لحكمه. طغى هذا التعطّش إلى رؤية نهاية أردوغان لدى النظام على كل المحاذير المرتبطة بفوز المعارضة ذات التوجهات الأطلسية الواضحة، بما في ذلك دفع تركيا إلى الالتصاق أكثر بالسياسات الأميركية، واحتمال هجرها مسار أستانة الذي هندسته روسيا، ووقف عملية التطبيع مع النظام السوري.
فضلاً عن ذلك، قد يخفّف فوز المعارضة، كما تأمل واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون، من درجة عداء تركيا لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ومن رفضها الدعم الأميركي لسيطرتها على أجزاء واسعة من الأراضي السورية. ومن المؤكّد أن تنسحب، فوق ذلك، المعارضة التركية من تفاهمات طهران التي جرى التوصّل إليها في يوليو/ تموز 2022 بشأن تنسيق الجهود "لطرد" الأميركيين من مناطق شرق الفرات. هذا يعني أن "قسد" التي دعم أبناء عمومتها من أكراد تركيا تحالف المعارضة لإسقاط أردوغان، ستغدو في موقف أقوى تجاه النظام وإزاء الضغوط الإيرانية -الروسية لدفعها إلى تفاهمٍ معه، كما يعني هذا أن بقاء مناطق شرق الفرات، الغنية بثرواتها الباطنية والزراعية، خارج سيطرة النظام، سوف يطول. يزيد فوز أردوغان، في المقابل، من احتمالات حصول تفاهم يعود النظام بموجبه إلى ضبط الحدود مع تركيا في إطار اتفاق أضنة معدل (أضنة 2) يسمح لتركيا بالتوغّل بعمق 30 كلم داخل الحدود لمطاردة التنظيمات الكردية المسلحة، بدل الـ خمسة كيلو مترات في الاتفاق الأصلي (1998).
بالنسبة للمعارضة السورية، مثّلت الانتخابات أهمية أكبر، ذلك أن فوز "تحالف الأمّة" التركي المعارض كان ليحرمها من حليفها الوحيد المتبقي على الساحة الإقليمية ومن أي دعم يقدمه لها. وكانت المعارضة السورية فشلت على مدى العقد الماضي، ربما مراعاةً لحساسيات الحزب الحاكم، في فتح قنوات اتصالٍ مع المعارضة التركية، تقيها عواقب التقلبات السياسية في بلد ديمقراطي. بدلا من ذلك، وضعت المعارضة كل بيضها في سلة حزب العدالة والتنمية، وجعلت نفسها، بقصدٍ أو بغير قصد، جزءاً من الاستقطاب الداخلي التركي. تمثل الانتخابات الآن فرصة لأن تعيد المعارضة السورية النظر في سياستها، بأن تتواصل أكثر مع المجتمع التركي لإنشاء شبكة أمانٍ تحميها من تقلبات المرحلة المقبلة، والنأي بنفسها عن تجاذبات السياسة الداخلية التركية حتى لا تقع ضحية لها، وأن تبني تحالفها مع الدولة التركية وليس مع حكومتها، فحسب. في كلّ الأحوال، سوف تظهر المرحلة المقبلة، مع انغماس روسيا في أوكرانيا، وعدم اكتراث الأميركيين، وافتقاد العرب أي أدواتٍ للتأثير على الأرض، أنّ العامل التركي كان وسيبقى المتغيّر الخارجي الأهم في تحديد اتجاهات القضية السورية. ولهذا كان السوريون، بوعي أو بدونه، الناخب الأكبر الذي لم يستطع التصويت في الانتخابات التركية.