النيجر: دعم الانقلاب بإعلان الحرب عليه
كان انقلابيو النيجر في ورطةٍ حقيقيةٍ، حتى أعلنت فرنسا الحشد العسكري للتدخّل من أجل إسقاطه وإعادة الديمقراطية إلى البلاد، إذ في هذه اللحظة التقطت مجموعة العسكريين المنقلبين الهدية، وأعلنوا التعبئة الشعبية العامة دفاعًا عن السيادة الوطنية والكرامة الوطنية، تحت الشعارات المعتمدة لدى كلّ النظم الانقلابية في القارّة من نوعية "النيجر لن تركع".
في الإطار ذاته، كان تلويح المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بالتدخّل العسكري لإعادة النظام المنتخب مقبولًا على نطاق شعبي، حتى أطلّت فرنسا برأسها، وبالغت في التعبير عن دعمها اتجاه حكومات "إيكواس" إلى الحلّ العسكري لاستعادة الحالة الديمقراطية... هنا تبدّلت المشاعر والمواقف، واتسعت رقعة الالتفاف الشعبي حول الانقلابيين، كما قرّرت عواصم مهمة في القارة الأفريقية معارضتها الشديدة فكرة تدخّل "الإيكواس".
على ضوء هذه المعطيات، على فرنسا أن تواجه نفسها بالسؤال: لماذا يفضّل الناس الانقلاب العسكري على الديمقراطية، إذا جاءت الأخيرة من عند فرنسا؟. الشاهد أنّ الناس في القارّة الإفريقية يحبّون الديمقراطية حبّاً عظيماً، لكنهم يكرهون فرنسا كرهًا أعظم، وتلك هي المعضلة التي جعلت الانقلابيين مبتهجين بمحاولة باريس فرض نفسها وصيّة على الديمقراطية الأفريقية الناشئة، مدفوعةً بأوهام الأبوية الفرانكفونية على دول القارّة، وكأنّها لم تغادر بعد عقلية المستعمر الأبيض القديم الذي يخطف الألباب، كما يخطف اليورانيوم والذهب من المناجم.
يُخبرنا التاريخ وينطق الواقع بأنّ الإحصائيات تذهب إلى أنّ 78% من الانقلابات في أفريقيا جنوب الصحراء، منذ التسعينات، وعددها 27 انقلابا، حصلت في دول فرنكوفونية كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، كما أنّ النيجر هي آخر دولة، في غرب أفريقيا، يستولي فيها الجيش على السلطة، بعد بوركينا فاسو وغينيا ومالي وتشاد، كلّها مستعمراتٌ فرنسية سابقة.
هذا يعني مباشرة أنّ الإرث الاستعماري الفرنسي، بكلّ ما اشتمل عليه من نفاق واستعلاء واستعباد، هو الداعم الأكبر لكلّ من يفكّر في القيام بانقلاب عسكري على الحكم في هذه الدول، استنادًا إلى المعادلة الجديدة: كلّما اقتربت فرنسا ابتعدت فرصة استعادة الديمقراطية. وفي حالة النيجر، اقتربت فرنسا حتّى التصرّف بعقلية المستعمر الوصي، الأمر الذي منح الانقلابيين فرصة كافية لترتيب أوراقهم وتنظيم صفوفهم وإنتاج خطاب شعبويٍّ يضمن لانقلابهم حاضنة جماهيرية، مستفيدين من عناصر أخرى، أغلبها قبلية وإثنية.
إذن، باتت قطاعات هائلة من شعوب العالم الثالث على يقينٍ بأنّ الديمقراطية في دولها ليست أولوية فرنسية، أو غربية عمومًا. وبالتالي، لا أحدً يصدّق إنّ فرنسا حزينة على ديمقراطية النيجر، بل هي حريصة على نفوذها ووصايتها على ثرواته، كونها لم تحرّك ساكنًا أمام انقلاباتٍ عسكريةٍ مماثلةٍ في شمال أفريقيا، بل دعمت هذه الانقلابات لقاء صفقات طائراتٍ مقاتلةٍ كاد يأكلها الصدأ في مرابضها.
الأمر نفسه يمكن أن تجده لدى واشنطن، إذ أقصى ما يمكن أن تقدّمه للديمقراطيات الأفريقية والعربية المجهضة تصريحات تطرب الآذان، عن ضرورة استعادة المسار الديمقراطي، والتعبير عن الموقف الأميركي الرافض لسياسة الانقلابات العسكرية، غير أنّها بالتدريج تبدأ في التطبيع مع هذه الانقلابات، بذريعة الأمر الواقع والمصالح الاقتصادية والأمنية، وهذا بالضبط جوهر الموقف الأميركي من انقلاب النيجر الآن: ضد الانقلاب قولًا لكن مع مخرجاته فعلًا.
وبين النفاق الفرنسي والخداع الأميركي تتأرجح دول غرب أفريقيا بين التلويح بساعة التدخّل العسكري، وبين التهدئة لإفساح المجال للحلول التفاوضية، ثم العودة إلى الحشد من أجل العمل العسكري، الأمر الذي يجعل المتابعين لا يتوّقعون تدخّلًا عسكريًا بالفعل، وحتى لو قفزت "إيكواس" إلى الحرب، فإنها قد لا تكون مجدية، أو بالأحرى ستكون الخسائرأضخم من مكاسبها، بالنظر إلى أنّ المزاج الشعبي بات أكثر قابليةً للتعايش مع سلطة انقلابية، عوضًا عن ديمقراطيةٍ بنكهة فرنسية، وهكذا تجري عملية تعويم الانقلابات غالبًا.