الهجرة وقميص عثمان
بعد أن حصل تحالف أحزاب اليسار في فرنسا على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية أخيراً، وحاز الأغلبية النسبية في الجمعية الوطنية، متقدّماً على أحزاب اليمين واليمين المُتطرّف (حلّت ثانية وثالثة)، سجّل الرئيس إيمانويل ماكرون استخفافه بالعملية الانتخابية ونتائجها، رافضاً تسميةَ مَنْ اقترحه تحالفُ اليسار مُرشَّحاً لرئاسة الحكومة المقبلة. في المقابل، اختار الرئيس الفرنسي تسميةَ أحد عتاة رموز اليمين الديغولي، من أعضاء حزب الجمهوريين، المفوّض الأوروبي السابق ميشيل بارنييه، للتصدّي لمهمّة تأليف الحكومة، التي أُعلِنت أسماءُ تشكيلتها خلال الأيام القليلة الماضية. وقد بيّنت هذه الخطوة مدى الخفّة التي تمّ من خلالها التعامل مع المسألة الديمقراطية من الرئيس ماكرون، إذ إنّه تعامى عن تصدّر تحالف اليسار النتائج، ووجوب تسمية رئيس أو رئيسة الحكومة منه، وذلك كما نصّ عليه العرف السياسي في الجمهورية الفرنسية الخامسة. وقد تحجّج ماكرون بأنّ تحالف اليسار لم يحصل إلا على الأغلبية النسبية، وليست المطلقة، ممّا سيعرّضه إلى حجب الثقة في أول مناسبة أمام الجمعية الوطنية، علماً أنّ حزب الرئيس نفسه لم يحظَ إلّا بالأغلبية النسبية منذ سنة 2022، ومع ذلك، استمرّ في ترؤُّس (وتشكيل) الحكومات التي تعاقبت على فرنسا.
وقد ضمّت التشكيلة الوزارية الجديدة عدداً كبيراً من الوزراء ووزراء الدولة. ولقد شكّل اليمين الديغولي، وهو الذي سجّل أدنى النتائج في الانتخابات التشريعية، العدد الأكبر منهم، تلاه أعضاء من حزب الرئيس ماكرون المسمّى حزب النهضة، وأخيراً أعضاء في أحزاب يمينية صغيرة وكتلة الوسط، أبرزهم وزير الداخلية الآتي من أقصى يمين الديغوليين، الذي عُرِف عنه مواقفه الرجعية فيما يتعلّق بالملّفات الاجتماعية، كما مواقفه المُتطرّفة فيما يخصّ مسألة الهجرة. عضو مجلس الشيوخ برونو روتايو كُلِّف بأكثر الحقائب السيادية أهمّية، وهي وزارة الداخلية، وبدا أنّ تسميته جاءت استجابةً شعبويةً لما يطرحه اليمين المُتطرّف بشّأن مسائل الهجرة واللجوء والأمن. ولقد استهلّ عمله بإطلاق التصريحات النارية المتعلّقة بملفّ الهجرة، وربطها بالانفلات الأمني، وبتهديد وظائف المواطنين الفرنسيين. روتايو هذا يخلف جيرالد دارمنان، الذي كان يضاهيه حدّةً بالتعامل مع مسألة الهجرة، وصولاً إلى التهكّم على اليمينية المُتطرّفة، رئيسة حزب التجمّع الوطني مارين لوبان، معتبراً أنّ موقفها من الهجرة والمهاجرين ليس بالشدّة المطلوبة، ووصفها بـ"المائعة". والمُلفتّ أنّ دارمنان أشار، للمرّة الأولى، في أثناء مراسم التسليم في باحة الوزارة، إلى أنّ اسمه الكامل هو جيرارلد موسى دارمنان، فهو من أصول جزائرية. مضيفاً أنّ اسم موسى قد خرج من أوراقه، لأنّه كان ليحرمه من تبوّؤ منصبه. وفي ذلك إشارة مستغربة منه إلى عنصرية بنيوية في المشهد الفرنسي لطالما نفى وجودها أثناء تولّيه منصبه. وهو بذلك يبدو وكأنّه يبحث عن التمايز عمّن حلّ مكانه في المنصب. وبالتالي، فمن المحتمل أنّ دارمنان الطموح سياسياً، الذي لم يحصل على موقع وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، كما كان يتمنّى، ينظر بطرف عينه إلى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة سنة 2027.
شهدت فرنسا نموّاً مستداماً (متواضعاً) في عدد سكّانها من المهاجرين، مقارنةً بجيرانها الأوروبيين
لقد أجمع المراقبون على أنّ قانون الهجرة، الذي صدر في عهد وزير الداخلية السابق جيرالد موسى دارمنان سنة 2023، كان من أكثر القوانين الناظمة لهذا الملفّ تشدّداً في تاريخ فرنسا الحديث. ولقد اعتبر دارمنان حينها أنّ الهجرة إلى فرنسا تكاد تكون "تسونامي" قد يُهدّد استقرار المجتمع المحلّي. وبالتالي، فقد وضع من خلال القانون المتشدّد هذا الأسس الضرورية للنظر والتعامل مع هذه الظاهرة بتشكيك دائم، كما اعتبارها ظاهرةً غير شرعية من المُفترَض التصدي لها عبر سياسات حكومية صارمة. ولقد برز تأييد اليمين المُتطرّف قانون الهجرة هذا خلال جلسات النقاش، التي خُصّصت له في الجمعية الوطنية.
من خلال الدراسات والإحصاءات الرسمية والمُدقَّقة، شهدت فرنسا نموّاً مستداماً (يبقى متواضعاً) في عدد سكّانها من المهاجرين، مقارنةً بجيرانها الأوروبيين. كما أثبتت الدراسات الاقتصادية والديموغرافية أنّ هذه الهجرة الضعيفة حجماً لم تُشكّل يوماً عبئاً على الإدارة المالية العامة، كما أنّها لم تمثّل أيَّ نوعٍ من التهديد للمحلّيين من العمّال، ومن الموظّفين، في القطاعات كافّة من حيث التوظيف والأجور. وعلى العكس من ذلك، فقد ساهم المهاجرون في تلبية احتياجات سوق العمل من الأيدي العاملة المُؤهَّلة وغير المُؤهَّلة. فالهجرة إذاً تبدو عاملاً مهمّاً للنمو والإنتاجية في مختلف القطاعات الاقتصادية في المديين القصير والطويل. وفي إطار الهجرة المُؤهَّلة نسبياً، فإن تأثيرها الإيجابي على الإنتاجية، المرتبط بتكامل المهارات، يصبح أكثر أهمّيةً عندما يأتي الأفراد من خلفيات ثقافية وتعليمية متنوّعة. وبالتالي، فإنّ الهجرة المُؤهَّلة والمتنوّعة، سواء من حيث مكان الميلاد أو التدريب، تُشكّل رافعةً مهمّةً للإنتاجية.
ويستمر ملفّ الهجرة في إثارة الجدل سياسياً وأمنياً، كما في التحريض على تعزيز مراقبة الحدود، كما فعلت ألمانيا أخيراً. وفي هذا الجو السديمي، يقتل شابٌّ مغربي فتاةً جامعيةً بعد اغتصابها، فيقفز جميع اليمين (بمُتطرّفيه ومعتدليه) على هذا الحادث، إمعاناً في ربط مسألتَي الهجرة والأمن.